حاوره: بول مخلوف، حرمون حميّة
>> مسرورون جداً بإستضافتك أستاذ "غي ديبور". هنالك الكثير من المواضيع التي نوّد أن نتحدث عنها معك لكن طبول الحرب تقرع والوقت يداهمنا. نحن على أبواب "شهر التسوّل". ما هو تعليقك الأول على الإفلاس الذي يصيب لبنان؟
قرأت أن وزير المالية الجديد يريد أن يشحذ 5 مليارات دولار من "الدول المانحة" ليؤمن القمح و"الفيول" والدواء لمدة سنة. تخيّل أن المجتمع اللبناني الذي فلَقَ رب البشرية بـ"تحضّره" و"ذوقه" الرفيع، ومعرفته بتفاصيل الماركات العالمية و"نحنا ولاد عيّل وتلاميذ جامعات"، هذا المجتمع الإستهلاكي العنيد، يستدين المال ليؤمن أساسيات الحياة.
قلبي يؤلمني كلّما فكّرت بالفاشونيستاز والإنفلونصرز الذين سيضطرون إلى مسح شعرهن بالسّمنة الحمويّة للحفاظ على رونقه ولمعانه. كيف سَيُطَبِّق اللبنانيون شعار "تِهري وتجَدّد" ويؤمنون قرضاً بفائدة خيالية لشراء سيارة المارسيدس عام 2020؟ يا حرام يا لبنان! يا حرام يا شباب وشابات لبنان. لقد وقعتم في الفخ! فخلف كل هذا الهراء، خلف كل صالونات الضيوف والسيارات والخدم والحشم و"الضهرات" و"السفرات" و"السلفيز" والنرجيلة وعمليات التجميل، كائن صغير وحزين لا يفقه في الحياة سوى العمل والإستدانة والإستهلاك لخدمة الإستعراض.
عام 2019، أفلَسَ المجتمع المشهدي أو الإستعراضي في لبنان. إستغل رأس المال هذا الحدث وقام بتسليعه على شاشات التلفزة تحت أسماء من بينها "يوميات ثورة"، وبدعم من إعلانات المصارف. حتى الدمار يمكن تسليعه وجني الأرباح من خلاله.
>> كائن صغير وحزين … ايه والله يا أستاذ "غي". طيب، دعنا نتحدث أولاً عن كتابك الشهير "المجتمع المشهدي" (1967). كيف يمكنك أن تلخص لجمهورنا العزيز نظريتك ؟
هذا السؤال يحتاج إلى سيجارة، دعني أشعلها أولاً…
حسناً، في المجتمعات الصناعية التي تتخذ من الرأسمالية نظاماً إقتصادياً لها، دائما ما يطغى المشهد على الحدث الفعلي. بمعنى اّخر، يأتي المشهد كأولوية على كل شيء آخر. عندها يفرغ الشكل من المضمون ويتحوّل إلى صورة فتحَمِل هوية صاحبها وتُعرّف عنه. يمكننا حصرها إذا أردت بمصطلح "الصورة للصورة".
سأضرب لك مثالاً لتوضيح المقصود. إذهب عند متجر "نايكي سبور" وإشتر حذاء "نايكي اير ماكس" واستمتع بصيتك على أنك ولد مدلل وثري. خصائص الحذاء ليست مهمة، وقدرته على تحسين أدائك ليس عاملاً في اختيارك. ما دفعك إلى شراء هذا الحذاء هو "الشوفوني". هذه الشوفوني تبدأ معك من على مقاعد الدراسة. يصل تلميذ مع حذاء جديد "نحلم" جميعاً بإمتلاكه، ومعه تأتي الغيرة من صاحب الحذاء، ومعه أيضاً يأتي الوعي حول عدم قدرة الأهل، ذوي الدخل المحدود، على شراء هذا الحذاء. يلاحقنا طيف التلميذ صاحب "نايكي اير ماكس" طوال حياتنا. يصبح العدو الذي نتمنى أن "نكون في حذائه".
>> هاها، جيد اللعب على الكلام أستاذ ديبور… "نكون في حذائه" مثل الأميركان "Be in his shoes"
وهل أنا لوحة إعلانية تحاول إضحاكك ودفعك إلى الإستهلاك والإستعراض؟ أصمت وركّز معي.
>> عفواً، أرجوك تابع..
سأتابع. كنت قد قرأت كتاب فيورباخ "نقد جوهر المسيحية" (1841)، الذي تتضمن مقدمته نصّاً أثار إهتمامي كثيراً لدرجة أنني شعرت وكأنه قد سرق من جوف عقلي، دعني أقرأه لك فهو يلخّص كل شيء: "لا شك أن عصرنا يفضل الصورة على الشيء، النسخة على الأصل، التمثيل على الواقع، المَظهَر على الجوهر، والوهم وحده مقدَّس. أمّا المُدنس فهو الحقيقة. وبالأحرى فإن ما هو مقدس تزداد قيمته بقدرما تتناقص الحقيقة ويتزايد الوهم، بحيث تصبح أعلى درجات الوهم بالنسبة له أعلى درجات المقدس".
>> يشبه حديثك عن الصورة والأصل ما طرحه المفكر الألماني والتر بينجامين في كتابه "العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنياً" حيث يشرح كيف أصبحت قيمة الشيء، أو العمل الفني في عصرنا، تقاس بعدد النسخ التي يتم إنتاجها منه.
بالفعل، إنها الحيلة نفسها التي ما زلنا حتى يومنا هذا نعاني منها في مجتمعنا، لا بل تفاقمت وازدادت خطورتها مع بروز التكنولوجيا والوسائل الإعلامية والتسويقية كوننا نعيش تحت سطوة الرأسمالية. ببساطة، إن "الإستعراض" بالنسبة لي ليس حدثاً مثيراً للدهشة ولا يحمل فعلياً جماليّة معيّنة. إنه ليس حتى مجموعة من الصوّر بل علاقات إجتماعية بين الأشخاص تتوسط فيها الصور.
>> أستاذ ديبور رجاء، نطلب منك المزيد من التوضيح! مستوانا مستوى نقاش على واتساب…
أخي، إن الإستعراض مفهوم كليّ وهو في آن واحد نتيجة ومشروع نمط الإنتاج الراهن أي الرأسمالية. الإستعراض ليس ديكوراً مرافقاً للرأسمالية بل لُبّ لاواقعية المجتمع الواقعي. بمعنى آخر، هو مجموع التصوّرات والخيال المتجذر في وعي الأفراد حول ما هو أصيل، لخلق رغبات وحاجات جديدة لا يطلبها الفرد بل يقتنع بأنه يحتاج إليها. كل المحاولات الدعائية التي تراها وتسمعها من حولك ليست سوى رسائل مُبطنة هدفها إقناعك بالإستهلاك فقط لا غير. المطلوب منك هو أن تنخرط في لعبة السوق وتكون فرداً فاعلاً (منتجاً ومستهلكاً) في هذا المجتمع. وإذا كان لا بد من أن يكون لهذا الإستعراض من معنى فلا معنى له إلا نفسه، والإستهلاك والمزيد من الطلب والعرض، أي فائضاً من الإنتاج. ومن أجل المزيد من الاستعراض والاستهلاك، عليك العمل على مدار السنة لشراء ما قالوا لك أنه "موضة العام" أو "رأئج" أو "must".
لخصت هذا الأمر في الفقرة الأولى من كتابي حيث قلت: "في المجتمعات التي يسود فيها نمط الإنتاج الحديث تُقدِّم الحياة نفسها كَكُلّ على أنها تراكم هائل من المشاهد أو الإستعراضات. كل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد متحولاً إلى تمثيل."
>> هل تقصد أن الإستعراض هو نظرة مزيّفة للعالم؟
لا يمكن فهم المشهد على أنه إساءة إستخدام عالم الرؤية بل إنه بالأحرى رؤية للعالم وجدت ترجمتها المادية، رؤية للعالم أصبحت مُتَشَيّئَة. (objectified) ويمكن تلخيص هذه الرؤية كالآتي: "إن الإستعراض هو رأس المال وقد بلغ من التراكم حدّاً تحول عنده إلى صورة."
>> كيف يمكن للدعاية أن تجعل من الاستعراض واقعاً؟ كيف يمكن للصورة أن تطغى على الحقيقة؟
سأجيب عن سؤالك بإعطائك مثالاً. إفتح تطبيق إنستغرام على هاتفك الذكي. أنظر إلى الصور المعروضة على التطبيق. سترى، على سبيل المثال، صور شُبان عابسين، نصف عراة أرخوا لحيتهم. قبل أن تنهي جولتك، تشعر بانزعاج زائد من واحد من هؤلاء الشبان. ربما لأنه بالغ بإيماءات وجهه أو ربما لأن وضعيته في الصورة أضحكتك، أو ربما لأن صبرك من الشبه الموجود في الصور والرسائل المراد إيصالها قد نفذ. عندها تقول لنفسك تلقائياً "مفكر حالو دان بلزارين." "دان بلزارين"، الشاب الثري الشهير بصوره الإستعراضية الوضيعة، ليس شخصاً وحسب بل هو ظاهرة أرادها المجتمع الرأسمالي ليكون المثال الأعلى للشباب. فـ "دان" ليس سوى واجهة لعرض السلع الرأسمالية وأشكالها وسلوكياتها. إنه بالأحرى "mannequin". ففي حين يهاجمه كثيرون لـ"تسليعه" النساء في صوره مع عارضات في البيكيني، غاب عن هؤلاء "النقاد" أنه، دان شخصياً، سلعة أيضاً في إستعراض رأس المال الدائم.
لقد أخذت عملية الترويج لـ"حلم الشاب" أو "الصورة الفاضلة" للشاب عقوداً ، من هوليوود إلى المسلسلات التلفزيونية والمجلات وحتى القصص والروايات. هذا الحلم يقول أنه يمكن للشاب إمتلاك العالم بأكمله (The World is yours) من خلال إمتلاك السيارات والمجوهرات والثياب الفاخرة. فهذه السلع قادرة على تأمين الحب والفتيات والفرح. ولذلك، دائماً ما يبحث المجتمع الرأسمالي عن شخص مثل "دان بلزارين" ليكون واجهته، بل أيقونة لمجتمعه.
>> تقصِد أن الشاب دان، من خلال صوره على إنستغرام، يقدم لنا خارطة طريق علينا إتباعها؟
نعم، هذا صحيح. دان هو علّة من عِلَلِ وجودنا في عالم "الإعلانات". هل نسيت أن مصدر الدخل الأساسي لهذه المنصات الإلكترونية هو الإعلانات؟
"دان" وغيره من المشاهير الذين لا يملكون أي موهبة غير الإستعراض، يلعبون دور الـ"mannequin" للترويج لساعة يد أو حذاء أو نظارات شمسية. كنتيجة لهذا الإعلان المبطّن، يقرر الجمهور شراء ساعة اليد أو النظارات الشمسية. والدافع ليس جمالياً، بل لإعتقادهم في اللاوعي أن إمتلاكهم لهذه الساعة سيعطيهم مزايا من إرتداها أصلاً، أي "دان بلزارين"، أي الـ"mannequin".
>> صحيح، ألاحظ كثيرين من حولي يتّبعون السلوك نفسه!
وسرعان ما تلاحظ كيف يتغير سلوكهم فجأة، ويعيشون فعلاً على أنهم باتوا الإنسان الذي يريدون أن يكونوا عليه. وهذا الإنسان "الحلم" مرتبط إرتباطاً وثيقاً بقدرته الشرائية، بحسابه المصرفي، و"قيمته" في السوق. "دان بلزارين" حالة خطيرة كونها تطغى على وعي ولاوعي الشاب من خلال إضفاء "الهوية" عليه. فخطورة هذه العلاقة الإقتصادية ليست فقط في قدرتها على دفع الأفراد إلى شراء سلع غير ضرورية، بل أيضاً في قدرتها على جعل الفرد يشعر أنه كائن ناقص، بلا هوية وبلا قيمة.
>> قبل أن نختم هذه المقابلة، ولله لا يُمل أستاذ "غي"، لكن علينا أن نختم، طلب منّي إتحاد المنشقين عن قوى الأمر الواقع أن أسألك عن رأيك في جريدة "رحلة"، فما رأيك؟ وبماذا تنصحنا؟
بصراحة أنت لم تعجبني بتاتاً. لم تدخل رأسي، شعرت أنك تريد أن تكون صديقي بالقوّة، لا أحب هذا الـ Type من الناس. عموماً، جريدتكم أوريجينال، تضم كتاباً واعدين ومواضيعكم ذكية. شكراً لإستضافتي في هذا العدد وأنا صراحة فرِح، وإنه لأمر صعب أن أكون فرحاً بأنكم قد تأثرتم بي وبنظريتي عن المجتمع المشهديبعد مضي كل هذا الوقت. يطعمكم الحج والناس راجعة!
لكنني علمت أنكم مهووسون بما يسمى الكولاج، وكأنكم مهتمون بالسرياليين! أنصحكم بمراجعة أرشيف "Letterist international" أو ال "L.I' " وهو موجود على الإنترنت، كنّا فرحين بموضة الـ "ديكولاج" (Decollage) التي هي عكس الكولاج تماماً، تقنية فنية أبدعها التعبيرييون الجدد (Nouveaux realistes) عبر تمزيق وتقطيع الصوّر والإعلانات الدعائية المعلّقة على الجدران وخلق صورة فنية جديدة من خلال تمزيقها وتخريب هذا الإعلان. يتضمن هذا التخريب رسالة رمزية تعبّر عن رفض الفن المستعمل لتسويق الإعلانات (advertising) وتجريد الفن من جماليته وتعزيز الإستعراض ودعواته إلى الإستهلاك.
في مرحلة تعاوني مع ال "Letterist International' إخترعنا تقنية تشبه الـ Decollage" وأسميناها ال "Detournement"، أي خطف الهدف المرجوّ من الشعار الإعلاني أو تحويله ضد نفسه. كان جلّ همنا القضاء على الرأسمالية وكنا نعلم أنه يجب علينا أن نكون مبدعين وأذكياء كفاية لقتل هذا الوحش، لذا وجهنّا العديد من شعارات الماركات التجارية بطريقة تنفي هدفها المبتغى لتكون النتيجة مضادة. في العدد السابق من "رحلة" أحسست أنكم تجربون القيام بهذا العمل من خلال الصفحة الأخيرة بوضعكم صورة حزينة لبيروت تبرزها كأنها وحيدة وحزينة وكان عنوانها "الليلة بدنا نولعها"، أغنية سائدة لمطربٍ فاشل. لكن لم تقنعوني، أنصحكم بتبني الـ Detournement . لديكم في لبنان العديد من الموّاد التي يمكنكم العمل عليها، خاصة شعارات المصارف "راحة البال" وغيرها من الهراء.
إنه وقت القضاء على الرأسمالية التي تتحكم بالوعي واللاوعي وليس وقت الغوص في الأحلام والرموز والباطن كما يريد هؤلاء السرياليون الأنذال.
____________________
غي ارنست ديبور
(بالفرنسية: Guy Debord) شاعر وكاتب وسينمائي فرنسي شهير، ولد في 28 ديسمبر 1928، وتوفي في 30 نوفمبر 1994 في باريس. كان من أشهر كتاب فرنسا الماركسيين ومن المتأثرين بالخصوص بفكر فيورباخ. انضم ديبور في عمر التاسعة عشرة للرابطة الدولية لمناصري حركة الـ «ليتريزم». شارك في تأسيس «الأممية الموقفية» التي اشتهرت بـ «تدخلاتها الفنية» (Art Interventions) وشارك في أحداث أيار 1968 في فرنسا. من أشهر أعماله كتاب "المجتمع المشهدي" (1967).
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة