"أراقب بطن أمّي، بطنها الّذي يتشنّج ويتراخى للمرّات الأخيرة من وجودها القصير. أراقب بطنها. ليس من زمان بعيد، أنا كنت فيه. حبلت بي وولدتني وهي تصرخ نفس الصرخات، احتضارها الّذي يقتلع الصرخات الآن من أحشائها، ولأنّني عرفت أحشاءها، أصير لبرهة أخًا للاحتضار" . (قذيفة في القلب - وجدي معوّض)
***
"أراكِ في الثلاثين يا عزيزتي". هكذا ردّت مبتسمةً، الممرّضة الكبيرة على المرأة الشابّة الّتي أنهت منذ دقائق، أولى عمليات الولادة بالنسبة لها، وهي تختتمها بـ:" أقسم بالربّ أنّها الأولى والأخيرة".. وزوجها وراء باب غرفة التوليد، متعرّق بعد أن كان يصرخ طوال الوقت: أنا السبب، أنا السبب.
حسنًا أعرف أنّ الموضوع هنا عن الجنس غالبًا وليس عن الولادة. لكنّها ستكون بداية جيّدة لكلينا. كلانا أنا وأنت، أيّها القارئ. نبدأ باللذّة وننتهي بالألم ومصاريفِ الحفّاضات والحليب الّذي سنتقاتل عليه في السوبرماركت. كيف حالك عمومًا؟ الدولار يتصاعد كأنّه بعثة فضائيّة نحو المرّيخ، ولا يهمُّ فنحن لا نملك شيئًا، نحن نملك الأصدقاء، وأعتقد أنّ هذا يكفي.
صراحة قد لا يكفي هذا تمامًا، علينا أن نغيّر شيئًا ما، في الخارج هناك، أو أن نراقب أو نهاجر إلى جزيرة ما في أحسن حال. هيا نرى للمرّة الألف، الدول الّتي يستطيع الپاسپور اللبنانيّ دخولها دون فيزا هه.
الولادة وألم المخاض، في أيّ شكل كان. ما هذا الموضوع في هذه الأجواء اللعينة الآن، وكيف أبدأ وأين أنتهي، إنها مشكلة حقًّا. هذا ما خطر لي وأنا أقرأ عن موضوع هذا العدد.
- هاي ألو بوب، كيف الحال، أنظر هل أنت في الدّوام الآن؟ أها أنت في المستشفى..ممم تدخّن بعد عمليّة قصّ المعدة، صحتين..على السيجارة بالطبع أيها المنحرف.. لا لا أريد أن أرى المعدة المقصوصة، تبًّا لك، أنظر أريد أن أسألك، ما الّذي تستطيع إخباري إيّاه عن موضوع الولادة؟ آه العمليّة، أو أيّ شيء، هيّا أرجوك..أجل ثقافة عامّة..لا ليست حامل ما الّذي تتحدّث عنه! أرجوك بوب ركّز، ما الّذي تستطيع قوله عن الحمل والولادة لشخص مثلي.
- طيب يا عزيزي، سأخبرك: الجنس قبل الولادة مفيد جدًّا لل..
- بوب أرجوك، الموضوع مصيريّ، قد يطردوني من المجلة جرّاء تأخّريَ الدائم..
- آسف، طيّب هل تعرف أنّه من المفيد جدًّا أن تضع المرأة مولودها على صدرها مباشرة، ...أو هل تعرف أن الولادة الطبيعيّة دائمًا أفضل من القيصريّة، والولادة الطبيعيّة بعدها تصبح صعبةً جدًّّا.
- آه فهمت عليك، تعني مثل في البلدان العربيّة.
- لا، ولا أعتقد أنه مثلٌ قد أضربه للمتدرّبين لاحقًا...طيّب تعال أحدّثك عن المخاض: فبعد انقباضات الرحم التدريجيّة، من الأفضل أن يُخرج المولود رأسه أولًا، ما يسبّب المشاكل هو ما يخرج أوّلًا كما ترى هه. طبعًا في حالات أخرى، حيث المولود جالسٌ في الرحم، مدَلدِلًا رجليه كأنّه في قهوة، فهذا دليل متاعبَ قادمة، إنّ المذرفكر لا يريد الخروج. أتفهّم موقفه عادةً.
-تعني مثل..
-لا لا أعني ذلك. دعك من هذا كلّه، إنّك لا تحتاجه حقًّا، لكن ما هو لطيف بالفعل - قد يفيدك هذا - أنّ الشرط الأساسيّ لكي يحيا الجنين بعد خروجه، هو أن يبكي.. أن يبكي يعني أن يعمل جهازه التنفّسيّ بعيدًا عن الأمّ.. لذلك يصفعونه أحيانًا على طيزه كما ترى. أن يبكي يعني أن يعيش، مع الأسف إنّها الطريقة الوحيدة.
- أووه خلاص، أكمل أنت المقال يا بوب.. ههه أمزح معك، شكرًا يا عزيزي، أعتقد أنّك ضيّعت عليّ 300 كلمة على الأقلّ في هذا النصّ.. إرجع إلى عملك هيّا، باي..
بعيدًا عن بوب رفيق السوء هذا، ما الّذي قد أتناوله في هذا الموضوع، دماغي لا يعمل بسهولة، إنّ الغلاء جعلهم يمزجون القهوة بمسحوق خراء الكلاب.. كيف تكتب في وضع كهذا يا رجل ممم ولربّما هذا هو الوضع الأنسب للكتابة. (صوت ارتشاف قهوة) أتعرف، يقال أن من عادات بعض الشعوب، ألّا تلامس قدما المولود الجديد الأرض إلا بمرور ما فوق الـ 100 يوم، آه كيلا تنجّسه، بعدها يقيمون له احتفالًا بلمسه للأرض.. أعتقد أن هذه هي النقطة الأولى الّتي لم يلاحظوها. الولادة تبدأ بوضع قدميك على الأرض، الأمر كلّه متمحور حول هذا الفعل البسيط: أن تضع رجليك، لا في ماء ساخن، بل على الأرض بثقة وهدوء. أن تفهم ربما، من أنت وأين أنت وما الّذي يحصل حين، وفجأة، وجدت نفسك في عصر معيّن دون غيره. لن أتحدّث الآن عن التموضع في العصر، وليس من المحبّذ أن تهدفَ إلى تمثيل روح عصرك، كما يدّعي نقّاد الأدب كمعيار للجودة.. روح العصر هي ما سيطفح من جلدك لوحده، حين تكون، فقط تكون. لا أعني به الفعل اللحظويّ لدعاية الـ "سيفين آب" عيش اللحظة، أي "Carpe diem" إنّما عن الكيفيّة الّتي تجعل فيها اللحظويّة فعلًا مؤبدًا، بحلقات متواصلة، مرتكزة على بعضها البعض. والوجهة في هذا هي: داخلك. في البدء لا كان ولا سيكون، في البدء كُن. "داني بوودمان ت. د. ليمون 1900" بطل كتاب ألساندرو باريكو "1900-مونولوج عازف الپيانو في المحيط" الّذي ولد ومات على نفس السفينة، ولم تطء قدماه الأرض مرة واحدة في عمره؛ "أنا الّذي لم أكن قادرًا على النزول عن هذه السفينة، نزلت عن حياتي؛ كي أنقذ نفسي. درجة وراء درجة..." كان باريكّو يعرف جيّدًا معنى ملامسة الأرض ذاك، وتلك اللحظة البسيطة: إنّه العيش، ولادة مجهولة ورحلة، فـ"الأرض سفينة كبيرة جدًّا" على إنسان هذا العصر.
إنّ النظرة النيتشويّة للتاريخ، تؤكّد لنا أنّ نقطة البداية ليست فعليًّا "نقطة بداية"، بل إنّ العود الأبديّ يحتّم هذا التكرار الّذي لا يشبه التقمّص إلّا في حمل الذنب القديم إلى مساحة بيضاءَ جديدة، غير مبتعد بالتالي عن مبدأ الخطيئة الّذي يواكب وجودنا على الأرض. لكنّني أظنّ أنّ كلّ نزول هو نزول جديد، مختلف، برّي، وخام. صدمة ما، خذلان، يرجعك نكوصًا إلى أصفى ما عشته؛ إلى الطفولة لتتذكّر الخطوات الأولى، ثمّ تتذكّر قدميك، على ما هما عليه فعلًا، وبعدها تعود. إنّها عملية أشبه بالحفر في كلّ مرّة وليس لعبة قفز على غطاء مطّاطيّ مستدير. وعليه، تبدأ الولادة بنفي النوستالجيا، فالحنين ضرس مهزوز. إنّ "ما هو آت" حتميّ إن كان هو الموت أم العيش مجدّدًا. أن تظلّ في مهبّ الاحتمالات، بمعنى أن تقف في المكان الّذي تزيد احتماليّة أن يراك فيه التاكسي الّذي يعرف الرّاكب من وقفته، والعابرَ من وقفته كذلك، مع فارق وحيد، أنّك هنا راكب وعابر في ذات الوقت.
لا أعرف إن كان هناك فرق بين المتاهة والولادة مجدّدًا، هذا هو المعنى الحقيقيّ ربما للتراجيديا، أن يولدَ كبد جديد لسيزيف، أن تحبّ في المرّة الأولى، ثمّ أن تغيّر وجهة نظرك وتقول: الحبّ هو أن تختار من تعرف أنّ بإمكانه قتلك، بإرادتك ... أنظر في عينيكِ وأنا أشرب الكأس، لن أفتضح أنّك وضعت السّم فيه، لن أخجلك، أعرف أنّه هناك، أعرف أنّك ستحكمين عليّ بالحنان الأبديّ، هذه التعويذة المدمّرة.
فارماكون، السمّ والدواء في ذات اللفظة...هكذا نغيّر شطر البيت القائل "ما الحبّ إلّا للحبيب الأوّل" إلى "فما الحب إلّا للحبيب المُأوّلِ"، مع تغيّر وزن الشطر من بحر إلى آخر تمامًا.
هذا هو أحد معاني الوجود، أليس كذلك؟ أن تستمر في الولادة، ويندرج إذّاك تحت هذا الأمر أفكار عديدة:
الولادة انفصال، في كل انفصال عن بيئة حاضنة نوع من الدخول في ذات، مختلفة ربّما، لكنّها متطوّرة، متألّمة نعم، لكنّ وسائل مجابهتها لآلام من نوع مماثل ستكون أفضل..
السارد على سبيل المثال، تستطيع تشبيه سرده بالانفصال، الابتعاد عن المنبع بقدر ما يثير من تناقضات ونزاعات، أو كما يسمّونها "فتن" في المجال الديني.. السرد فتنة الانفصال.
والآن نصل إلى نقطة في غاية الأهمّيّة، والّتي تتمثّل بوضوح في فيلم The children of men وهو عن امرأة تحبل بمولود يعتبر مخلّصًا في عالم ديستوپيّ تمزقه الحروب ولا ولادات حصلت فيه على مدى 18 عامًا.. ويتحدّث الفيلم عن ولادة هذا الطفل المعجزة… الحقيقة أنّه قد تبيّن لي أنّني لا أستطيع الاستفادة فعلًا من الفيلم في هذا النصّ.. لقد كان ممتعًا على كلّ حال. أتمنّى ألّا أكون قد أزعجتك بذكره، شاهده إن شئت.
هل اكتمل النصّ يا ترى؟ هل ابتغيت اكتماله من الأساس؟ هل أتركه مثلي، على مهبٍّ شاسع، مالكًا للنهايات المفتوحة عن آخرها؟ هل أمسك الأفكار الّتي ما إن رجعتُ لقراءة ما كتبت، وجدتها تفرّ كالجرذان يمينًا ويسارًا؟ لا دعها تعش حياتها الخاصّة، حياة تليق بأفكار لم يمسكها عقل ولا منهج. الولادة أخيرًا، أليست كذلك أن تترك النصّ مفتوحًا لحياته الخاصّة، أن تعرف متى تدع الأشياء وشأنها، إذ هل ظننت أنّ الأمر متعلق بولاداتك أنت فقط؟ الولادة أن تنهمك في موتك الخاص كذلك، أن تشغّل أغنية ما مثلًا، أن تعود للتدخين لليلة واحدة مثلًا، هوو كيرز، وتجلس قرب الكيبورد في العتمة وتقول: أوتش، قهوتك مشروبة عزيزي القارئ، فقد انتهى هنا النصّ.
الصورة: نيويورك، 1946
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة