“It’s alright ma, it’s life and life only”- Bob Dylan
كُن حذراً يا مان، في خطوتِك المُستقبلية المُقبلة، حين تكون على مشارف قصّ قالب الحلوى ببزّتك الرسمية البيضاء بعد نفخِك شمعة الأمنيات، واستخدم السّكين الحادة بديلاً، لتذبح زَلغَطة أمّك من النوتة الأولى ولتطعن رغبة والدك الهائمة من أوصالها، بأن يكون إسمه خالداً مع الأجيال. عندما تغدو قريباً من دخولِك القفص الذهبي واعتمادك الخاتم المُرصّع بالقيراط هويّة، إجلب معك بضعة أكياس من الثلج لتحقُن أعصابك بالإبر لتفتر (يمكنك أن تَضربها بالتقسيط المُمل) أو تمدّد عاري الصدر في البراد كما تفعل في فصول الرومانسية مع عشيقتك في الساونا، ستكون أمام معضلة إيتيقيّة مسعورة: الإنجاب أو التناسل وما يتبعه من عنايةٍ وتغوّط. قلّ لي لقد فات الأوان وفَعَلتَها، أنك لم تمشّط رأسك قليلاً قبل توقيعك شيكاً على بياض لحضرَة الإستقرار طمعاً في غفوة رومانسيّة على سريرٍ مزدوج فسيح مع بطلة أحلامِك، أقول لكَ لا بأس ولكن، لقد وقعتَ أسيراً في وهم الحب الخالد كما نصّبتَها لكَ المسلسلات الرديئة، فَلا بأس ولكن، هنيئا لك ذلك الغرض المشوب بالدهشة والبكاء، الكائن الهجين اللزج الذي سيوكلك بمهمة التنقيب كل ليلة مع حلول القمر عن ظلال الوحوش تحت السرير، أو وراء الخزانة. فَسارع يا مان، فوّر حصول ذلك، ومَد يد العوَن لجرّاح الولادة، لتقطع بالتزامن مع فضّه حبل السرّة، ذيل خنزير زهريّ اللون متدلّيًا من شفاه طفلك أتى خصيصاً من ديزني لاند. من حقك أن تمتعض وتتساءل مرتاباً عمّا إذا كان الأمر مقرونا بخِلقة مشوّهة، أو حتى أن تلقي اللوم على كروموزومات اَل حَميك الكرام، لكن هدّىء من روعك واطمئن، كل ما في الأمر أن مولودك الجديد - باركه الله - قد صُنع في لبنان. لا داعي أن تذهب إلى المُختبر للتمحيص في ماهية هذا الذيل، لا تفعلها، وانسَ وزارة الصحة وبراهينها العلميّة كي تصدق أن حالتك هذه ليست استثناءً. كان يكفي أن تعود بذاكرتك إلى الوراء قليلاً وتندم على ما ارتكبته في نشأتك علّك تحمل ضميرك ذنب هذا الويل، عن خطاياك الكبيرة وأنت صغير، كالتهامك الشرِه للشوكولاطة المَعروف بـ"راس العبد" وإمكانية نسفه خلاياك وزعزعة نسلِك بعدما كبرت لأنك لست سيدًا، أو أن تُفكر باحتمالية أن يكون انتقامًا مدويًا قادمًا من "سِيف العبد" حيث كنت تترعرع في المطبخ بجانب والدتك وهي تجلّي الصحون، لكنك مغميُ القلب والحنكة، نسيتُ.
الذيل ببساطة هو لثام الاستعراض والبذخ الذي سينكّل بما تبقى لكَ من عمر في دفع ضرائب العيش في حضارة فينيقيا آنْدْ حُب الحياة، وسيحجب الرؤية عن طفلك بذريعة تسديد قروض غُرز في لاوعيه أنها سبيله الوحيد، والسهل، للدخول إلى الجنّة. فسَارع واقطعه ولا تأبه. اعتبرها عملية خِتان كما تجري العادة للذكور، ووفّر على نفسك في المستقبل مواعيد لا تُعد ولا تحصى مع أطباء الأعصاب وأخصائيي تفكيك العُقَد النفسية. صدّق أو لا تصدّق، أنتَ حرّ، أنا لا أعرفُك لكي أخشى عليكَ، مصائبي جمّة والشيب في شعري يَزيد، فخُذ ما تعتبره مناسبًا والقِ بالباقي في سلّة المهملات. أنا مثلك تقريبًا، وغدُ لا مبالٍ يحفر كل ليلة قبرًا للعِبَر في باحته الخلفية، أشمئز من الإرشاد وأغضب كلما طرقت طبلة أذني صدى مسألةٍ أجبت عنها من قبل أو سبق وسمعتها. ما زال والدي حتى اليوم يَصرَع رأسي كلما عطستُ ليذكرني بأنه أتَم واجباته الطبية كاملة، وأرداني في صغري بكُل أنواع اللقاحات، من السلّ إلى نزلات البرد والإنفلونزا. أوكي، شكرا لك يا والدي، للمرةِ الألف، لكن ما غفل عنك هو أمرٌ فظيعٌ للغاية. كان يجب عليك أن توّفر لي طعْمًا مضادًا للحلم اللبناني الكبير يحصّنني من ارتدادات التفاهة وأزمات الوجودية المُستدامة، فمناخ عُمري غائم جزئيا والكهرباء، كما تعلم، مقطوعة منذ فترةٍ طويلة. وإنها مناسبة مضيئة نادرة الحصول، أن أُفصح ببراءةٍ تامة عن مكنونات العبث التي سكنتني دون إلقاء اللوم على أحد. والدي لم يخشَ المدّ الشيوعي يومًا، سخر من مخطط "أيزنهاور" وراهن عليّ، عندما أكبر، أن أتخلص من ذيل خنزير زهريّ اللون متدلٍّ من شفتي، وكان شبه متيقن أنني لن أتلوّث بنجاسته، لكنه، للأسف، كان مخطئا. ترك لي منذ أن كان عمره خمسة وثلاثين عاماً وعمري يوم وثانية حرية الخيار الكاملة، "كلّما قسا عليك الدهر واستفحَل، تذكر أنك حرٌّ، فيستحيل أن ينحني ظهرك ورأسك مرفوعٌ" قال. نجحتُ على الأرجح، في الحفاظ على الأمانة أكثر مما حافظت على نفسي، فَهمّي الدائم كان معرفة أثر الخطوة رقم ألف عوضًا عن التلذذ بتحقيق خطوة الميل واحد، وأرهقتني الآثار الجانبية التي تولدها الحيرة مع كل خيار، وعما كان سيحدث لو استقللتُ باصًا مكيّفًا بدلًا من السيارة، وعمّا إذا كان يجب أن أصغي بتمعنّ بدل أن أدير ظهري وأرحل، فالحرية هذه (يا أستاذ والدي) مذاقها مرّ، ومطّاطة، فلا تحزن إن استبدلناها بكلمة الجفول. وَالحق يُقال وأصحابي (معظمهم هنا) يشهدون، أن معجمي اللغوي يحوم كلّه تقريبا حول كلمة "كلا"، هذا المصطلح المفعم بالسلب، أخصصهُ للنفي القاطع لكلّ تجلّيات حب الحياة السائدة، إلا أنّي وقعت، وهذه أمور تحدث. كنت عرضة للإصابة بحمّى مرتفعة نتيجة رأس المال والسيليكون، فلم يبق سوى العيادة النفسية، بإصرار ملّح من أمّي، سبيلًا للتخلص من هذا الروث ورائحته النتنة التي ترافقك مدى الحياة. حالتي مُستقرة بعض الشيء، تسمح لي العيش لبضعة سنوات إضافية رغمًا عن أنف "فرويد" وحلمه الدفين الرطب بهيمنة القمع وسيطرة الحكومة. على الأقل، أستطيع أن أعض على جرحي، وأشدّ، ولو سرقتني أحلام اليقظة وبدا لي قتل الجميع دهسًا أو بإطلاق النار عشوائيًا مغامرة ممتعة، لكنني أكبح نفسي ولا أنزلق، ولا أفرّغ غضبي بطرق مشينة شاذة، كما فعل السنة الفائتة عامل غاضب في أحد الأفران، حيث استمنى في عجينة الخبز بعدما طفح كيله من أوامر رب عمله. وإني أعلم تمامًا أن ما أخاله جرثومة خبيثة تنهش جهازي العصبي من حفلات الـ"وان-مان شو" إلى كوكتيلات الأعراس إلى التبضع الفاحش من أيشتي، هو حقيقة. هنالك، في تلك الأماكن، تجري صناعة الوحوش. تنويم مغنطيسي فعّال يوقظ باطنية مرعبة، ثم يأتون إليك بنصف فم يتحججون أنها مجرد تسلية لإحباط سيطرة الكآبة. طيب، تبًا لكم جميعًا، فردًا فردًا، وكلّكم مجتمعين على حدّ سواء. ها أنا هنا، الآن، أمارس قاعدة التداعي الحرّ في هذا النص لأن الكتابة هي المفتاح الوحيد لفك أوصدة أبواب غرف نوم عقلي المغلقة ولأنني أحتقر أدوية الأعصاب التي تشوّه الوجه وتحول تجاعيده إلى حلبة مصارعة الديوك، وأيضاً لأن المعالِجة النَفسية انغرمت بي سراً. أخرج إلى الشارع الاَن واسأل من تشاء، كل شيء مرده للطفولة يقولون لك. حتى بيّاع اليانصيب يعلم هذا الأمر. إسحَب من رزمته ورقتين واسمعه يهمهم "كنت ولدًا نهِمًا مدلّلًا في طفولتك". صودف أنني في طفولتي، عندما هزّت أمي السرير لأنام، اهتزّ بي العالم، وعندما كبرت سقط الارتجاج على رجليّ وبتّ دائم الهزّ لأتحكم بالورع. فدائمًا ما أشعر بأني على حافة الهاوية، مجسدًا توصيف كيركيجارد، دائخٌ ومترددٌ وثقيل. أحيانا بطيء، يَعني في حالات المشي وقطع المسافات، كأن الكرة الأرضية جلست على كتفي بعد تناولها مائدة طعام دسمة، فأتلعثم في الخطوات، إجر واحدة تقود الميزانية غير آبهة بتوازن الأخرى، مع رجفةٍ باردة وإحساس بغيض بأنني مراقَب على الدّوام من قبل عميل سري، أو من أمي. عين الأم قناصة، قادرة على استنطاق الصمت برمقة واحدة. دائمًا ما أنفضح عندما أكذب وجميع حيَلي لا تنطلي عليها. "تمهل يا بطل، ماذا تفعل؟" سألتني أمّي مشدوهة بعدما رأتني أضرب رأسي بمرطبان القهوة. كانت أثناءها مع أصدقائها يتناقشون حول ما إذا كان إنتمائي لبرج العقرب أو الميزان. لم تصدّق كذبتي البيضاء، أنني لست صاحيًا بعد وأحاول أن أقضي على الذبابة الشرموطة التي تحلّق فوق رأسي. انصعتُ لطلبها بأن أزور المعالِجة النفسية بعد أن أقنعتني بالحجّة "والدك لم يشأ أن يحررك من وطأة هذا الذيل، أرادك أن تفعلها أنت، فماذا تنتظر لتتخلص منه؟ هذا السوّاد تحت عينيك، يا بنّي، يحكي الكثير، إفعلها، أرجوك." حسنا، تمّ يا أمي. وهكذا فعلت. أنا حذرٌ يا مان بما يتعلق بعملية إعادة التأهيل. أعرِف أن مهمة "الشرينك" تعتمد على تلحيم الإلتئام، وتنص على ترويضك لتُطيع ما تصدح عليه وتحاول أن تضربه بقوّة دون أن تصيبه في كوابيسك، حفاظًا على باراديغم المجتمع وأهواء مستوطنيه. لذلك ما كان علي سوى أن أكون نفسي، رافضًا التمدد على الكنبة والبدء بعملية سيلان الوعي كما يسمونها، لأن رأسي مرفوع وأنا حرّ، واخترتُ تقنية دراماتورجية استمديتها من "دي نيرو" وفيلمه "تاكسي درايفر". وقفت أمام الشرينك منتصبًا بثقة، طعجتُ أصبعين ليصبح كف يدي على شكل مسدس، شهرته نحو وجهها وأطلقت سؤالي بضغط: You? Talking to me? (أنتِ؟ تتتحدثين معي؟) لتجيبني مسرورة بأن أتفوّه بكل ما يزعجني باختصار شديد. "هل تعلمين يا شرينك أنك تُذكرينني ببطلة مسلسل السوبرانوز، الدكتور "ميلفي"؟ أشعر أنك محرومة من النوم ولا تحظين بالاهتمام الكافي من زوجك. لا تأبهي بحديثي. ماذا يجب أن أقول ومن أين عليّ أن أبدأ؟ عُطبي مزدوج، مضروب وجوديًا ومصروع إجتماعيا، إنهما مساران مرتبطان في نهاية المطاف، أو على الأقل يجتمعان ضدي بعد منتصف الليل، وباختصار شديد، كما طلبتِ، سأعرّي عيوبي وأبوح. رقبتي مرهونة للبنوك، روحي دفعتها بالتقسيط وبقي منها القليل وأتقاضى الحد الأدنى للأجور، 600 ألف. مدفوعاتي تتراوح على الشكل التالي: 300 ألف ليرة قرض جامعي، (زائد) 100 ألف ليرة كلفة سجائر صناعة وطنية، (زائد) 200 ألف ليرة فاتورتي الشهرية في المقهى، (زائد) ليترين من البيرة كل يوم لأتحمل بلادة "كارين" وبرودتها ("وتبهرين الوسائد بفتور حركاتك" مرسي بودلير) - كل ليتر 10 آلاف ليرة - على مدى شهر، أي 600 ألف ليرة، ناهيكِ عن فواتير معيشية أخرى، منها ثمن حصتك الثمينة. فّإذا كلفة نسياني تُضاهي كلفة يَقظتي، فإذا ً أنا إقتصاديًا عدم، بل مُعدم أو عدمي. باختصار شديد كما طلبتي حضرة "الشرينك" وسأستعمل لغة الجيل الجديد الرقمية، أنا أنزعج من #الإبتذال، #التفاهة، #الهايكنغ_في_الطبيعة، #زحمة_السير، #القطط، #الكلاب، #الأطفال، #الأماكن_الضيقة، #الإفراط_بالدراما، #لبنان، #الشخير، #التنفس_بصوت_عالٍ، #أصوات_الفم_عندما_يمضغ_الطعام، #اللعاب_الذي_يسرح_من_فمي_وتوقظني_رطوبته_
وأنا_أغفو، #الهاشتاغز، #ما_أفعله_الاّن". وضعتُ النقطة الأخيرة لكلامي ورنّ الجرس، ما عنى أن وقتي انتهى، مرّ بسرعة دون أن أنتبه. "يا للهول! نزعتك "السينيكلية" هذه غير صحيّة" قالت لي، وأضافت، ويداها تتحركان ذهابًا وإيابًا "أشعر أننا شبيهان، تتحدث بلساني عن أبجدية مشاكلك، موعدنا يتكرر غدًا، في نفس الوقت، لنّ آخذ منك ثمن الحصة، فقط تعال وسنشرب القهوة". في صميم صلب الموضوع، كل حائط غير مُستقيم يحتاج إلى ركيزة أو سند، وهنا يأتي سؤال صديقي "زاك" بمحلّه، إذا كنت من زوّار المعالجين، من يكون معالجهم الأصلي ولماذا لا تذهب إليه مباشرة؟ وإذا كان الأخير يتعالج، فَمن نصّبه معالجًا؟ قلّ عني مخبول يا مان، لا أبالي، سَبقتْك أمي ونعتتني بهذا الوصف بعد أن أخبرتها أنني لن أعيد الكرّة مجددا، لكنني علمت أن "الشرينك" أرادت أن تتقرب مني بذريعة مسائل قيد التحليل لتستبدلني بزوجها. هي لم تتوقف عن الاتصال بي لتذكيري بالموعد، لم أجاوب، كنت مع "التيتش" في قهوة كرم نحتسي الإسبرسو ونتحدث في الفلسفة (كان حديثًا مشوقًا عن "دايفيد هيوم" أخي مهدي، إنها الحياة، والأمور تَمضي… وفي النهاية وات كان يو دو؟). أما إذا أردت أن تعلم ماذا فعلت بذيل الخنزير، فسأخبرك سريعًا لأن عدد الكلمات هنا بدأ يخنقني. قررت أن أعبئ هذا "الجيب الهوائي الفارغ" بعبارات غابرييل مارسيل عن الوجود، وأتعامل مع المأساة بوصفها عارضًا والعارض يمكن استغلاله كتمهيد جذري للثورة، وأنا متأهب وكامل الجهوزية. لذا، قررت أن أستعمل الذيل حبل مشنقة أعلّق عليها رقبة والدي وأقتله، ليس بالضرورة أبي، إذ يمكن للأب أن يكون أحيانا رئيسًا للجمهورية. هذا كان كل شيء لهذا العدد، إلى اللقاء.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة