"أما أنا
فلا أريد الحاضر
بل أريد الواقع،
أريد الأشياء الموجودة
وليس الزمن الذي يقيسها". فرناندو بيسوا
(*) (عنوان قطعة موسيقية لزياد الرحباني. يُرجى من القرّاء الأعزاء الاستماع إليها خلال قراءةهذا النص. في حال أثار هذا النص اهتمامك، زياد الرحباني، الرجاء التواصل مع مكتبرحلة بفرعيه بيروت-زغرتا على الرقم التالي: 0شي519155 أو عبر بريدنا الإلكتروني.)
لا أعرف من أين أبدأ ولا أعلم أين سأنتهي. أحتاج إلى سيجارة، سيجارتين أو علبة في أقل تقدير، لكن الطبيب منعني عن التدخين حتى أجلٍ غير مسمّى، ولزقات النيكوتين التي دغمتها على جلدي لا تجدي نفعاً، شيت! التدخين يقتل، كذلك العيش، كذلك الوعود التي تُبث على موجة ثرثرات الديجا فو المَجانية التي تَطال أحوال الديمقراطية وإعادة تسويغ المسار والمصير كرمى عيون عُقم البارحة المزمن. بحوزتي صلب الموضوع، ولو تدري كم أتمنى لو بوسعي مقايضته ببندقية، أرشّ بها كل الملائكة البيضاء والشياطين السوداء، على حدّ سواء، أو أن أستبدله بغيتار "جيمي هندريكس" الكهربائي فأحرقه على مسرح الرتابة، الذي يُكرر نفسه كأنه العَودُ الأبدي بإيقاع بطيء، فيما الجماهير تنظر إليّ مشدوهة، تضحك بسذاجة وتُصفق. هذا كلّه غير وارد. مَعليش، الأمنيات عادة مُضرة (أكثر من التدخين بأشواط) يجب التخلص منها في جميع الأحوال، تدحض واقعية الأمل، تنفخ هواءً باردًا في رأس صاحبها فيغدو كبيرًا فارغًا بلا عازة، يَترَقب إطلالات السَحَرة والمنجمين ليتأكد أن الغد سيكون على ما يرام، وكلما شَعر بالصقيع يهرع ليحجز مكانًا على محطات التلفاز ليُقدم خواءه كدعاية درامية، فاصل إعلاني طويل مُزيّن بدمعتين. وات كان يو دو؟ أنتَ في جمهورية الجنون. جنون متَلّت بلدي أصيل أقسم بِشاربيك (وشاربِك أختاه) حيث مؤشر الاستقامة وبوصلة الغد مرهونان بأحوال البارحة، والبارحة مُرتبط بما قبله، وهكذا دواليك. عناد مخلوط بفائض من الوقار نتيجته بلوك-ديليت لجهد "كانط" الدؤوب عن العلّة، الذي إن قمت بإسقاطه واقعيًا، فسيشبه ترتيب حبال عواميد الكهرباء في منطقة باب التبانة. مهمّة مسقيّة من عرق الجبين لتؤمن إنارة واضحة: البحث عن المحرّك الأول سيصيبك بطفح جلدي مقزز، فتخلَّ عنه. لكن ليس باليد حيلة. الجماهير تعشق الٱعتيادية، وتجاهر بالعادات، ومدمنة على العادة على شتى أنواعها، وليذهب خيالك أينما تريد، رواق، سأعطيك إياها.
إخترِ المطعم الذي تُريده وٱذهب إليه، نصف ساعة هي مدة كافية لتعض أصابعك ندمًا لعدم تخصصك في طب العظم. ستسمع ثلاثة زبائن من أصل خمسة يتحدثون بطلاقة عن وجع يصيبهم في أسفل الظهر، يقولون بثقة جازمة ومعرفة مُطلقة أنهم يعانون من "ديسك"، يَعِنّون من الألم، ويعيدون تكرار الأسطوانة المعتادة "غداً سنأخذ موعدًا مع الطبيب". كلنا نعلم يا مان، ومعنا تلميذ في صف السادس ابتدائي، أن الآثار الجانبية للعادة السرية تخلف هكذا عوارض، ناهيك عن علم النفس الذي يفيد أن كل تأجيل لمسألةٍ طارئة حتى موعدٍ لاحق، أو كل كتم لسرٍ لم يعد محمولًا كبتُه ويجب أن يباح به إلى العلن، يتسبب في هذا الإجحاف. أنتَ في المطعم الآن لا تنسَ، ولم تنته النصف ساعة بعد: بعنايةٍ وجودةٍ، يستفيض في كلامه عن الألم، تُحدق متمعنًا في وجهه فتراه يكاد أن ينفجر. تخرس، تضع رأسك في الأرض، تشعر بعارٍ معيب، حَوزقَة وجدانية، أنك قادرٌ على الركض عاريًا في غابات الأمازون فيما هنالك رجل على المقلب الآخر لا يمكنه التبوّل إلا مُقرفصًا، حتى يتطرق إلى مشروعه المُقبل، حضوره الضروري، الإلزامي، لجنازة الغد. قوة الصفعة تجعل أذنيك تطنان. تَقصدهُ مسرعًا وتقول: "مان، أخي! سمعتك تَروي قصتك، الجنازة عذاب بطيء ممل سيقضي عليك. ستقف كالمصلوب، وهذا مُضر لظهرك، أرجوك لا تفعلها، أنتَ شيخ الشباب، ظرفك استثنائي، لا تحضر، لن يلومك أحد". يحرك رأسه موافقًا، يريد أن يعطيك ٱنطباعَ أنه حكيمٌ للغاية، يؤفئفُ ويقول: "يا ريت، ولكن، كما تعلم، إنها مقتضيات الحياة... هكذا تجري العادات". حسناً كما تريد، اصطفل، تباً لك وللعادات. تًحمل نفسك وتهم بالرحيل، تفتح الباب، تخرج من المطعم، تغلق الباب وراءك، ونَعود إلى النص.
إنه الرعب يا سيّدي، بهذه الكلمات وَصفَت سيدة عجوز تيار الوجودية الذي اجتاح كل مقاهي التروتوار وغرف النوم في باريس عندما التقت صدفة في القطار بغابرييل مارسيل. هَلع ميتافيزيقيٌ قعره عميق، من كل ما هو جديد، من كل قطيعة ولو كان حجمها حبّة سنبلة. المُخرجون وكتّاب المسرح على يقين من هذا. يعلمون تَمسكك الجذري بالاعتيادية، ويَجنون الملايين على ظهرك، يهبونك ذاتك التي تريدها، وأنتَ تضحك. فكّر بدورك الحياتي قليلًا، تستيقظ من النوم كل يوم، تدخل إلى المطبخ، وتُرحب بالجميع من تلقاء نفسك: "بونجور ماما، بونجور بابا، بونجور يا حماتي" وتتمنى لهم العمر المديد. تأكل فطورك وتتناول عشاءك، ومن ثم، تنتظر مناسبة رأس السنة ليتبلور معك ما تسمّيه "New year Resolution" (وهي على وزن "Political Correctness" بحرٌ بسيط، تقطيعه سهل، أن تقول "صدر" بدل "بزّ" تجنبًا لخدش مشاعر الاّخرين، مثلاً: X على كلمة "انفخوا") قرار يحمل انعطافًا بسيطًا بديهيًا، أو أمنية ساذجة مختبئة تحت رموش عينيك. وفي حال عجزت أو لم يكن لديك قدر وافر من الحظ، لتحقيقها، تبدأ بالترانيم البكائية على أطلال البارحة. شركة "الكوكا كولا" توافقك الرأي أيضًا. مشروب الفساء هذا قام بحملة إعلانية ضخمة تحت عنوان "العودة إلى النورمال" لكن ليس لجمال بشرتك أو تعاطفًا مع حسّك النوستالجي، بل لأنها تريد أن تستغل عجزك أمام الحاضر لتنتقم حضرتُك لاحقًا وتعوّض منسوب الأسيد الذي فوتت أمعاؤك حموضتَه عندما يتسنى لك الظرف. أنا أشعلتُ سيجارة الآن، غير آبه بوصايا الطبيب العشر، لأنني سئمت النعيق حول أحوال الكهرباء المقطوعة، والطرقات المجوّفة، والقلوب المفطورة، والبرلمانيين المخزيين، من أفواهٍ سقيمة، نطقها مضنٍ، تمتهن رغوة الأمنيات، تستنسخ مزاجها يومًا بعد يوم، وتتذمر من دور الضحية في ملحمة وجودية أنتجتها بنفسها. كما أيضاً سئمت من استعمال الاقتباسات، لسببٍ ما لا أدري ما هو، أو ربما لأنني أستعملها، وهو بالأمر العادي، لكنني أشعر بالسأم من كل ما هو عادي، حتى من محفظتي التي تحتوي على قصاصة ورقية، قصيدة لخالد بن صالح تقول "خرجت في مظاهرة بصدرٍ عارٍ، أحمل يافطة ضدّي". هذا صحيح. أحياناً، أصحو مهتاجًا، فأفرشي أسناني بالقهوة وأضع واقيًا في أذني أثناء لقائي مع الأصدقاء. أحيانًا، يحدث أن يكون صباحي مملًا، فأزور كازينوهات التسلية، ألعب البوكر إلكترونيًا، ماكينة شديدة الإثارة تدعى "غوودلاك"، تؤمن لك فترة تدريب كافية لمعرفة حجم المسؤولية المترتبة عليك عند اتخاذك كل قرار وكم أن الأمور العادية مملة. فرصة نادرة لأن تطلق وابلًا من الرصاص في أحشاء القلق والضجر فتتخرّج بجدارة، عقلًا أرعنَ مجازفًا يشمئز من سكون الحركة. أرفع رجلي عاليًا، أحني ظهري إلى الوراء وأكبِس، وعندما أصيب أجازف بالمبلغ حتى النهاية. تأخذ حوالي الخمسة عشر ثانية لأقرر خطوتي، وقت كاف لأستلذ برعشة اللحظة. تفتح الدبلةُ والأوراقُ تدور وتلمَع، كل ما هو فوق السبعة يُعتبر "كبير" وكل ما تحتها "صغير". أتربص حائراً: كبير/صغير/كبير/صغير/كبير/صغير، بووف...كبير! أتت السبعة، تعادل! لا خسارة ولا ربح. ألعب لأنني أمام موقفين، إما الربح أو الخسارة، لا عودة إلى الوراء، فأعيد الكرة مجدداً، كبير/صغير/كبير/صغير/كبير/صغير..بووف كبير! دبّلَت، برونتو!! ثمار المجازفة طيّبة، وحتى في الإخفاق، هنالك ما يستدعي المخاطبة ولو جاء الصدى مُختلًا. أصلًا لو أذعنت عندما ظهرت السبعة وقبلت بالتعادل، كان كل شيء ليعود إلى طبيعته، ولم يكن القرار الأصلي ذا فائدة، لكنني نزحت حدّ التصدّع، مغامرة بحجم دوبل، رافضًا الأبيض والأسود، ميالًا إلى الرمادي عَ رصاصي.
قرّب القطعة الموسيقية إذا كنت تَسمعها إلى الدقيقة الواحدة وأربع ثوانٍ. لقد أكملت الثلاثين من عمري منذ قليل، ولم أتمنّ شيئًا إطلاقًا. صيغتي تتماهى مع الجملة الأولى في هذا النص، قابلة للالتباس، مفتوحة للتأويل. البعض يعتبر أن أسلوبي "ويسترن"(غربي-أجنبي!) البعض يعتبرني سينمائيًا، هنالك من يعتبرني رديئًا، وأنا كلّما سألني أحدهم لماذا لم نعد نراك؟ أقول له أشياء غير عادية مثل أنني منهمك مؤخرًا في ورشة عمل مع "بوب ديلان". أحرص على عدم استخدامي صفة أو نعتًا في مقالين متتاليّن (باستثناء تكرار مفردة "عادي" في هذا النص، وهذا أمرٌ جيد كونه خرق للعادي وانقلاب على القاعدة) لكي أبقى وفيًا للتجربة، قريبًا من المتغيرات، ولكي لا تقع الكتابة في خانة ما هو عادي. وللمزيد من المعلومات، فقد اخترت الكتابة لأنني لا أريد أن أجلي الصحون في "ماكدونلدز"، ولأنها مهنة لم تعد سائدة ولا تطعم خبزًا، وربما هي اختارتني، لعنة حلّت علي باكرًا منذ أن قرأت جملة بليز باسكال "الإنسان غزارة مُفكرة"، لستُ أكيدًا. لكنني على يقين من بعض الأشياء، كانحيازي الدائم للسُفليين وغريبي الأطوار الذين تقاسمت معهم قطرات المطر في ليال شتائية قاسية، هم تحت تأثير الكوكايين وأنا تحت تأثير اليأس. تفكيرهم الدادائي خام غير منخرط في المنطق المُعتاد. هذا أحدهم: يوم أحد من شهر اَب. الطقس حار والشمس قوية. شعر كأنه يذوب على نار الملل فقرر أن يقوم بنزهة في سيارته B.M.W الفوميه. راح يُكزدر على مهله، وهو شبه عارٍ، بلباسه الداخلي فقط، حتى فاجأه حاجز للقوى الأمنية، وطلبت منه أن يركن إلى اليمين. قَدِمَ إليه الضابط المسؤول وطلب منه أن يترجل ومن ثم طلب منه بطاقة التعريف، أو سجلّه العدلي، ليتأكد من هويته. شبه عار، فقط بالبوكسر، حدّق في عيني الضابط، أشار بإصبعه إلى نفسه، وأجابه: "هوية؟ وين بحطّها ببخش طيزي يعني؟" ضَع نفسك في موقفه للحظة وكن صادقاً، ماذا سيكون جوابك؟ ليس لديك الوقت الكافي لتحطّ إقتباساتك رحالها على اليمين، ولن تدخل معه بصراع فكري تدور حول من يجيئ أولا ً البيضة أم الدجاجة، الماهية أو الوجود. أتذكره الآن، لأن مناكفته للعَسكر جدير ذكرها، غير عادية، مجرّدة من الإسفاف، أصيلة أكثر من غالبية المنظرين التقدميين، حقيقية أكثر من كل إستعارات شعراء النثر (وتبقى الشاعر الخطير، محمد شحادة) فلا يجب أن تذهب ضيعان، ويجب أن تدوّن. كل ما يذهب سدىً يجب إعادة النظر في أمره أيضًا، بغض النظر عن تحوّلاته اللاحقة. مرة غادرت منزلًا وخلفت شوكة ورائي. صرختُ وحَضنت إحداهن صرختي. إتصلتُ بها مسرعاً: "ألو، هاي! يا للهول، صوتك إذاعي! حضورك هو غياب الغموض، طيف الأشياء التي لا اسم لها. أريد أن أقدم لكِ وردة بدل الشوكة، قبلة بدل القنبلة، كأس ويسكي بدل القصيدة، هل تقبلين بي زوجًا في السرّاء والضرّاء؟ يمكنني أن أحضر الفوشار كل ليلة وأجبر نفسي على لجم تقلبات المزاج. زواج؟ نعم، نعم، أموّله مثلما نفعل في "رحلة ماغ"، من خلال الباتريون، وماكسيموم نقضي شهر العسل على الواتساب. ما رأيك؟ هذا غير عادي؟ طبعاً! أنتِ كمان غير عادية، وأجمل الأشياء أغربها! حسنًا نتكلم في الموضوع لاحقًا، أنا أحبك أيضاً، تشاو".
كانوا مُحقين أختاه، في القسم الأوّل من إعلان "Always Ultra". "كل يوم يومك إذا Always معِك". كل يوّم هو يومك يا مان، هذا ليس تفاؤلًا، بل نفيًا للركون جنب المقابر فيما أنتَ حيّ، وتسهيلًا لك لعدم الوقوف في قاعة الانتظار حتى تتحقق الأمنية كأنها أعجوبة. ألا تعلم أن المعجزة هي حصان طروادة ستخونك في الوقت القريب؟ المعجزة، مجاز شعري يحصد منك الدهشة، يجردك من هيبة الفعل و
وأنا سعيد للغاية، لأن طالب عاد إلى المقال القصة اليوم بعد أن كان شاعرًا في العدد السابق. تَفضل كريتيكال، أرهم ما جديدنا.
الصورة: سلمى مصفي (موسيقى فيديو رمادي ع صاصي)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة