النص الفصيح لا يرتكز على شفهية الخطاب، إنما على وطأة السياق في تدبيره وتركيبه. كل ما يمكنك التعبير عنه وقوله بسهولة، لا مكان له في الكتابة. كل ما لا يمكنك التفوّه به لفظياً، لكونه مُناطاً بالاسترسال ودقة العبارة ونحت الجملة على قياس الفكرة، هو الأمور التي تجدها، وتجد نفسها، مكتوبة. فلسطين في ذاتها، لا تعانق بمدلولها الفصاحة فحسب، إنما هي من تلك الأشياء التي لا يمكنك، إن سُمح لك، التعبير عنها بسهولة. وفي حال استطعت، فالكلام العمومي عن فلسطين، بما هو شائع ومع ما هو سائد، ضبابي الشأن ويلتف حوله التضليل، وهو خطأ ينزلق إليه الجميع، لأنه فسحة مجانية توفر امتيازاً يحصده المتزلفون على حساب الحقيقيين، باستعراض عمقهم الإنساني، فيما نواياهم متوارية وراء خطابهم الممجوج بالتعاطف والشفقة.
وهذا سبب كاف يجعل من الكلام عن فلسطين يختلف كثيراً عن الكتابة حول فلسطين أو عنها، وفي الكثير من الأحيان يتعارض معه، لأنه ببساطة، يفضح المفارقة الفعلية التي تقع بين الموقف الملتزم، الذي إن كُتب يبدو فصيحاً، والموقف الذي يصف نفسه بالمتعاطف، والذي لا ينتج عنه سوى الثرثرة. الفرق جوهري هنا، وهو ثقافي بالدرجة الأولى أكثر مما هو لغوي. ثقافي بمعنى التموّضع الذي تحاول اللغة جاهدة أن تميّعه أو أن تزيّف موقف القائل خدمةً للقاتل. السياق، مثل التاريخ، لا يَمزح. ما يُكتب، مهما تنوعت تأويلاته، يخضع للتمحيص والتنقيب، وفي عصرنا الحديث للحجب في حال لم يذعن لشروط المُهيمن، بعكس الكلام، أو الاستدلال الشفهي في المحاججة الذي يستطيع المواربة والتبدل بخساسة الرقص البطيء، فيتمايل من حجةٍ إلى نقيضها، على شاكلة معادلة حل الدولتين، ويبقى صديقاً ودوداً ومقبولاً لدى الجميع دون أن يخسر أيا من امتيازاته، أي منتصراً، صوريّاً، في كل الجهات.
من هنا، عندما يتعلق الأمر بالكتابة عن فلسطين، على المرء أن يكون قاسياً ورزيناً. أن تكون كلماته حجارة ولغته فائضة في التداعيات، باعتبار أن موضوعه هو حيّز يتداخل فيه الجغرافي مع التراجيدي مع عدم الاعتكاف عن قول لا النافية -وإثباتها بالصواريخ والحجارة- دون عتبة تفصل بينها، كتلك التي تشترطها المسارح، لأن فلسطين برمتها، ليست فقط قضية. هذا اختزال يجرها إلى التجريد. يحوّلها إلى مشهد من الإلياذة نسخة القرن العشرين فيما هي واقع حقيقي يحتل المرتبة الأولى في معجم المعرفة- على أنها هولوكوست متدفق وسرمدي- وليست محاكاة للاحتمال بالمفهوم الأرسطي.
حصر فلسطين بأنها قضية وحسب، هو ربح للشفهي على حساب المدوّن، أي المكتوب، وانتصار للحس العام على حساب التصويب وجذرية الانحياز، وطبعاً وهي الحالة الأسوأ والمستجدة، الموازاة بينها وبين قضية الحرية لبريتني سبيرز. هذا حشو لغوي، لغو دلالي، ومحمد درّة لا ترثيه أغاني بريتني، وبالطبع، لا يلاطف جمالها المسجون قباحة في طريقة استشهاده.
الأحداث الأخيرة التي اندلعت في حي الشيخ جراح، الحرب -العنيدة- التي حدثت بعبارة أدق، كانت كافية لتضع الرثاء على جنب قليلاً، وللمراقبة بدلاً من ذلك، لتجريب المبدع والمنجز، في اجتراح أدوات للمواجهة والقتال. الانتقال من حالة الدفاع إلى المواجهة القصوى، عسكرياً، إستراتيجياً وبالأخص لغوياً، من كل ما هو مُهمل وهامشي أو صالح للقولبة والتدوير، هو النصف المليء من الكأس الذي يجب التحديق فيه بتمعن. لكنه الأمر الذي يتغاضى عنه معظم بلاغيّو اللغة العربية وحراس مكانتها المعاصرة، لتعويلهم على الهزيمة سلفاً، وانتمائهم المطلق للرثاء في استحداثهم، حصراً، لما يتمتع به الإرث الأدبي من أبعاد درامية. يأتي هذا ربما، من ترسبات لا واعية من ألف ليلة وليلة، من شطور الوجوم والهزائم، لتترسخ مجدداً المأساة من خلال إعادة إنتاجها ثم تصديرها، إيديولوجياً أو شعرياً، كونها مادة خصبة تنبثق من الوجدان المتأزم الذي يشكل إغراء كاسحاً لعشاق جلد الذات، وتمهد الطريق لفعلهم الأحب: رفع الأصابع العشر للاستسلام، فينتهي المطاف بالإطراب في المراثي، ولو بالنثر عوضاً عن النظم، فمهما اختلفت الأساليب إلا أن الموضوع يبقى واحدا. هذه مسألة متعلقة بالعقل: خاصية فردية أخذت لنفسها شكلاً وجودياً.
عندما تحاول أن تقارب مسألة الحياة والفن كما طرحها الشكليون الروس مثلاً، بيقينهم أنه ليس من خط جازم يفصل بينهما، تدرك أن كل الكلمات الطنانة والمصطلحات المحشوّة الرنانة التي تباهت بها الأنظمة العربية ليست سوى عملية تقليد لهيبة القصيدة الخليلية؛ إفتعال للصدى ليكون صوت الحاضر مسموعاً عند القدماء. على هذا النحو يُستحوذ على الرضا، يُقبض عليه من السلطة الغيبية التي تعطي بدورها إذن السماح لممارسة السلطة الفعلية، فتشكل ظلالها. الكلاسيكيات، بمعاييرها، شكلاً ومضموناً، جوهر هذا الحاضر وأحيانا شكله أيضاً.
فالأنظمة العربية، ببنيتها وعمارتها الداخلية، وسلطويتها الحازمة، في ضبطها للإيقاع والصوت، ولجمها للارتجال الذي يوّد الانفلات من النسيج- وهو الهروب من الكلّ طمعاً بالخاصية- ما هي إلا نموذج لواقع مُعاش ومباشر خارج عن صفوف القصيدة العامودية التي تركن على الضفة الحقيقية منها. هي التجسيد الشرعي لها، ولو أتت كنسخة مسوّدة عنها فيضمحل بريق بلاغتها الشعرية، لكنها تعوّضها بعنف السيوف وكثافة الدم وصراخ المساجين.
فلا ريب عندئذٍ، أن كل هذه الأنظمة، والتي تشبه الأشكال الثقافية القادمة من المنظوم مكرسةٌ عمقه الدرامي، وكأنها امتداد له، من قوانين الحكم الشاقة التي تماثل قساوة قواعد العروض وحزمها؛ لم ينفعوا فلسطين بشيء، ولا حتى في تغيير المزاج إنما استمتعوا بنزيفها كمشهد فيه من الجلد ما يؤمّن النشوة لمراقب سادي كان يتمنى لو أن هذا التعذيب من نصيبه. وبالتالي، استقوا منها ما يميلون إلى تذوّقه، مؤلفين سردية تزعم أنها مضادة، ميالة الى الأسطورية كقناع مخاتل يفصح عكس ما يضمر، تتمثل بأنهم البطل المنقذ، وهم حقاً متفرجون كسالى، اكتفوا بالوصف والسرد أمام فاجعة درامية من لحم ودم موجودة على بعد أمتار منهم.
هذا ما مُني به الواقع العربي المتحدر من ثقافة الرثاء، بميله المتشدق اللاعقلاني لها، نظرياً وعملانياً: لغة منكوبة في الكتابة يليها أو يقابلها نكبات حيّة. نكسات متتالية لا مانع لديها من تقليب الأدوار بين الحياة والفن، في استباقية الأولى على الثانية عادة، على أن المعادلة الجدلية هذه، صيرورة مغلقة لا تنتهي، محصنة بوجه الفناء في تعانق عضوي بين المسلّمة والنتيجة. هذه التراكمية جعلت من العقل سقيماً، يعوّل على التذكر عوضاً عن التفكير، ولو في المجهول، بغية الاكتشاف لأجل التجاوز. فباتت الاعتيادية رديفاً للمُعاش، وجعلت من الإذعان قدراً. هكذا تمت المصالحة بين العين مع ما لا يمكن أن يكون مرئياً. كل ما يجب ألا يكون مرئياً يحدث في فلسطين، بينما الأدب الغارق في الشفهية، أو ذلك الذي ما زال متمسكاً على قدم وساق بحنينه للإرث المأساوي ما زال شغالاً، في الوصف التعاطفي والسرد التضامني دون أن يغفل تصريحه الهلامي بأن فلسطين هي صلب قضيته المركزية. بيد أن كل ما يجب أن يكون مرئياً أو مسموعاً، أي حاضراً، فهو مغيبٌ بل محظور. خرائط غوغل مثل الأمم المتحدة لم تعترف بفلسطين، وأيضاً كل منصات التواصل الاجتماعي أزالت كل منشور شخصي ذاتي متضامن، أو خبر صحافي موضوعي، يطال نتائج الحرب وصور المجازر.
في لغة العولمة إن البعد الحقيقي لا الافتراضي هو ممنوع من الصرف. لكن الحرب الأخيرة غيّرت القواعد وخلقت إدراكاً مختلفاً، تجلى بظهور أشكال غير مألوفة. ففرضت أدبياتٍ جديدة مضادة لما سبقتها، استطاعت أن تكون محركاً قوّياً يكسر الجمود ويباشر بالحركة. فرضها هذا، يعتبر بالأساس، انتصاراً، من اعتماد الابتسامة عقب الاعتقال التعسفي سلاحاً، مروراً بصواريخ محلية الصنع مستقاة من أنابيب الصرف الصحي وصولاً إلى الأهم: الكتابة الفصحى والرزينة. إنه الخرق الذي أحدثه الملثم. مَن خرج فجأة من حجره ليحقق قطيعة فاصلة بين المرئي واللامرئي واستطاع بأسلوبه هذا أن يخلق نموذجاً لشكلٍ جديد نقلته اللغة إلى فضائها، فحذت حذوه. هكذا، ولّد انزياحاً للاعتباطية التي أوجدتها بنية الأنساق الزاخرة بالخسائر وثقافة الاستسلام، تلك التي تعرّف عن فلسطين بأنها قضية، ومعناها: الإدمان على الدموع، والغرق في الصمت، وأنها قابلة، برضاها، للتغييب.
في نطاق العولمة، تعمل الخوارزميات في البرمجة والمحتوى، الوظيفة ذاتها التي تلعبها الأيديولوجيا المهيمنة في الواقع. هنالك شرح عن كيفية حصول هذا الموضوع في مقال كريتيكال "مغامرة شعر المملوك جابر"، لكن ما هو مهم هنا هو تأثير الملثم على لغته، والأثر الذي أحدثته هذه اللغة تباعاً. نتكلم هنا عن اللغة بلا تنقيط أو بدون إعجام، تلك التي كانت الشكل الأصيل للغة العربية، والتي عادت وظهرت بشكل مشابه من جديد مع الناشطين المناصرين لفلسطين في الحرب الأخيرة على الانترنت، بفارقٍ بسيط لكنه مكثف، هو أنها جاءت محملّة بغايةٍ واضحة المعالم، وهي ملتزمة بقضية وغير آبهة بالزخرفة وبريستيج الإيتقيا. إنها إحدى أوجه الحرب التي شُنت بلا دراية على مفهوم "الفن للفن" بكل أشكاله وعرّابيه، في تضميناتها أولاً وتماهي قائلها مع قوله ثانياً. ولكن للدقة والتفريق يجب إطلاق التسمية لتوضيح الفرق، على أن يكون المسمى كما ورد هنا: اللغة الملثمة. فهي تقنية معتمدة وليست استنساخاً مجانياً لتجربة فائتة، مضت عليها العصور، حيث أنها ولدت في توقيت وضمن سياق، لها وظيفة تبتغي تحقيقها وهي ليست استحضاراً للتراث ونكوصاً الى الماضي، إنما تكمن على النقيض، بمقاومتها للخنوع المتأصل في الإنشاء والانضباط الاستبدادي. وبالمناسبة، هي لم تنجح بالتسلل والمرور في مساحات ممنوعة عليها فقط، بل أثبتت وجود ما يُراد له أن يكون لامرئياً في عالم القرية الواحدة التي تسحر الأعين.
إستطاعت هذه اللغة أن تدخل العالمي وتعتمده ساحة للمواجهة المفتوحة، بطريقة تذكر بعمليات خطف الطائرات، أو بالفدائيين الذين يدخلون مقرات أعدائهم ويفجرون أنفسهم بها. كما أنها تردنا الى حيلة ال Detournement، إعادة التحويل او الخطف التي اعتمدتها جماعة "غي ديبورد"، الأمميون الوضعيون، والتي ترتكز على تخريب الشكل ليـأخذ منحى آخر، فتتغير الرسالة وتتبدل بتحوّل السياق. خطف للمعنى من المعنى ذاته بغية استعماله ضد نفسه، بآخر جديد، مشتقاً منه ولا يشبهه.
على هذه الشاكلة يحضر الغائب، وهو أمين لغيابه لكونه ملثماً. وفي حالة اللغة يحضر مشفراً، فيما يستغل قوّة غيابه بوجه من غيَّبه فيحضر. وبحضورها هذا تكون قد استردت أحقية المعنى وأسست له، بعد أن كان محجوباً عنها ومسلوباً منها، ليشكل الرفض، انتصار اللامرئي على المرئي، الأخير المراهن على الصمت والحظر. وبالكلام عن التشفير، فللأخير دلالة لا ينبغي غض النظر عنها، إذا أردت تمييزه أدبياً وتصنيفه تبعاً للأجناس، فهو مشتق من الواقعية وبعيد كل البعد عن الرمزية المشهورة بنزعتها النخبوية وضآلة جمهورها. هذا ما يجعل من اللغة الملثمة أداة للتثوير إن لم نقل أداة ثورية.
لا يمكن تعريف اللغة الملثمة بأنها قناة تمر منها الرسالة، إنما هي بذاتها الرسالة. في هذه الحالة، ليس هنالك فرق بين الشكل والمضمون، بل تماهٍ مطلق حيث الأسلوب يعكس المضمون، ويأخذ المضمون شكله الأبهى. وهذا ما يوفي فلسطين الفصيحة حقها، من خلال ممارسة هذه الفصاحة بالذات، كما فعلت اللغة الملثمة: جعلت من فلسطين تكتب، وتقول ما كتبت.
إنه الشكل الذي سمح للشبح أن يظهر بأعضاء من لحم ودم في وسط المذبحة، ففقد الذباح السكين وبقي فمه مشدوهاً.
الصورة: "لن نرحل" على مدخل دار عائلة الكرد في حي الشيخ جرّاح
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة