نصوص مُركّبة، صور مزيّفة أنشأتها خوارزميات، أصوات إصطناعية تتقمص شخصيات، روبوتات تتحدث مع البشر، عوالم افتراضية ومحاكاة، سرديات بديلة وهويات متعددة المستويات… هذا هو بعض ما نشهده اليوم في عالم الانترنت الذي تحوّل إلى مساحة متنازع عليها تضع البشر وجهاً لوجه مع الآلة، مساحة تستخدمها الآلة لاستخراج المعاني من فتات الكلمات والمعلومات التي ننشرها نحن البشر، لينتهي بنا الأمر بمزيد من الارتباك والضياع والتشويش. في 1995، قدم لنا ديفيد بوي لمحة سريعة عما سيكون عليه عالمنا بعد 30 عامًا: ألبوم "الخارج". قال للصحافي جيريمي باكسمان في 1999: "لا يمكن تصوّر أثَر الإنترنت على المجتمع في المستقبل، سواء أكانت نتائجه إيجابية أم سلبية… إنني أتحدث عن السياق الفعلي وطبيعة المحتوى التي ستكون مختلفة جدًا عن أي شيء يمكننا أن نتخيله الآن. التفاعل بين المستخدم والحاسوب سيكون سلساً جداَ لدرجة أننا سنعيد النظر في طريقة فهمنا لمعنى الوسائط".
"الخارج" (Outside) هو ألبوم ديستوبي للفنان ديفيد بوي صدر في 1995 ويمزج بين موسيقى الروك والجاز والإلكترونيكا والروك الصناعي والروك الأمبينْت. كما يحمل في طياته عناصر ومفاهيم من الديستوبيا والدراما والأداء المسرحي والنفس القوطي في سياق سردي غير خطّي. خلال كتابته لكلمات الأغاني، استخدم بوي تقنية التقطيع (cut-up) المدعومة بالحاسوب بالإضافة إلى آلات الـ synthetizer للتلاعب بصوته وخلق أصوات الشخصيات المختلفة التي تظهر في الألبوم. يشير مصطلح "الخارج" إلى المفاهيم الواقعة "خارج" التيار السائد، وخاصة الفنانين الخارجيين (Outside artists) الذين تعلّموا عزف وتأليف الموسيقى بأنفسهم، ومؤدّو العروض الفنية الذين لم يختلطوا مع التيارات السائدة والمؤسساتية في عوالم الفن. وغالبًا ما يقدّم "الفن الخارجي" حالات عقلية متطرفة أو أفكارًا غير تقليدية أو عوالم خيالية.
"استخدمتُ أجزاء من قصائد ومقالات من مجلات وصحف، وأعدتُ طباعتها وإدخالها إلى الحاسوب الذي يعيد رميها إلي لأفعل بها ما أريد." في سبعينيات القرن العشرين، عمل بوي على كلمات أغانيه باستخدام تقنية التقطيع، وهي تقنية طوّرها الكاتب ويليام إس بوروز واستخدمها مبدعون مثل تي. إس. إليوت وتريستان تسارا وأعضاء الحركة السريالية. يصف بوي التقنية الأصلية التي استخدمها قبل إضافة العناصر الحاسوبية: "أود أن أقول إن النصوص التي قطّعتها كانت أعمالًا مرتبطة بالسحر والتنجيم وأطروحات فلسفية غامضة، لكن هذا سيكون خادعًا. فالحقيقة هي أنني كنت أقطع فقاعات الكلام من قصص مارفل المصوّرة، وفقرات من قصص جورجيت هايير الرومنسية والبوليسية، ومقالات افتتاحية في الصحف ومجلات الأزياء… لقد كانت كلها نصوص غير قيّمة، ولكن بالنسبة لي، الإلهام الذي توفره صورة بجانب نص، أو تحوّل مفاجئ وغير متوقع في سياق عبارة هو أمر لا يضاهى".
في 1995، أثناء العمل على ألبومه "الخارج"، دخلت التكنولوجيا حيز التنفيذ. كلمات الأغاني في الألبوم تمّ تركيبها عشوائيًا باستخدام البرنامج الحاسوبي randomizer. ومثلما يُستَخدَم الغراء والمقص في تقنية "التقطيع" التقليدية للورق، يتم تقطيع النص ثم يعاد جمع الأجزاء المختلفة بترتيب جديد. وهكذا، "عندما بدأت الفرقة في الارتجال الموسيقي، كنت أضع كل الأوراق على الطاولة وأبدأ قراءة أجزاء من هنا وهناك."
ثمّ طوّر صديق الفنان برنامجًا حاسوبيًا يسمح لبوي برمي شذرات وأجزاء من المعلومات والنصوص في كمبيوتر ماكنتوش، وبعد الضغط على الزر "عشوائي"، يقوم البرنامج بتقطيع وخلط المحتوى ثم عرض النتيجة الجديدة. وكان بوي يقرأ العبارات التي أنتجها الكمبيوتر أثناء عزف الفرقة للموسيقى، ثم يقرر ما إذا كان سيغني الكلمات أو يؤديها كحوار أو يعيّن شخصية من شخصياته المتخيّلة لتأديتها. "كنت أرتجل مع الفرقة بسرعة وأنتقل من سطر إلى آخر وأرى ما هو الأنسب." ويقول بوي في إحدى المقابلات الصحافية إن عملية تكوين محتوى الألبوم باستخدام هذه الطريقة استغرقت حوالى ثلاث ساعات ونصف الساعة.
كلمات الأغاني المنبثقة من هذه التقنية غالبًا ما تكون غير مترابطة، ويُترك تفسير المعنى للجمهور. ويشرح بوي: "كما قال رولان بارت في منتصف الستينيات، كانت هذه هي الطريقة التي يبدأ بها تفسير المعاني، أي عبر المجتمع والثقافة نفسها. ويتحوّل المؤلف إلى مجرّد أداة تحفيز".
ويمكن تفسير المنحى الديستوبي للألبوم بأنه وليدة هذه التقنية. فكما يقول ويليام إس. بوروز: "عندما تشقّ (cut) الحاضر، يتسرّب المستقبل منه." ومن خلال هذه التقنية، يتم عرض المستقبل كحالة من الفوضى، يتشكّل كطبقة ديستوبية، كصورة لزمن مقبل.
وتعكس تقنية إنشاء الألبوم والأصوات الالكترونية محتوى الأغاني. فالبرنامج الحاسوبي "Randomizer" المستخدَم هنا مرتبط بطريقة مباشرة بثيمة الألبوم التي تصل الواقع الديستوبي المتخيّل بموجة التكنولوجيا والرقمنة التي أصبحت أدوات للتحكم بالجموع.
وكما هو الحال في ثلاثية برلين الشهيرة التي كلّلت تعاون بوي مع براين إينو في سبعينيات القرن العشرين، استخدامت آلات الـ synthetizers لخلق الموسيقى وأصوات الشخصيات. هذه الآلات تعمل أيضاً على استخدام نماذج صوتية متنوعة ومزجها مع أصوات أخرى ثم إعادة بثها لتقدم طبقات صوت جديدة ومركّبة. وتسمح تشوّهات الصوت بمحاكاة أصوات الشخصيات أو الأجناس أو الأعمار المختلفة الذي يريد بوي أن يقدّمها في الألبوم.
وبالتالي، يفيض الألبوم بشخصيات تستند بالأساس على شخصية بوي الأصلية وتشوّهات صوته الذي تمّ تحويله وتوليفه رقميًا مرّات عدة. وتقارب كل شخصية مصنوعة في الألبوم شخصية بوي الأصلية من مستويات وزوايا مختلفة. ووفقًا لهذا التفكيك، يمكن للمرء أن يرى جزيئات من بوي كأيقونة تتناثر في عدة صور، بعضها سهل القراءة والبعض الآخر بعيد يصعب تفكيك شيفرته.
ويمكننا أن نستنتج أن ألبوم "الخارج" يشكل إعادة تفسير للأيقونة، على مستوى شخصية بوي الأصلية والشخصيات المتخيّلة في الألبوم، وذلك بفضل التقاطعات والترابط بين صورة بوي والشخصيات المختلفة والرموز التي تعبّر عنها. ولذلك، فإن تقنية التقطيع في الكتابة وصوت بوي المؤرق والاتجاهات العديدة في الألبوم التي تشبه المتاهة، تجعل من هذا العمل الفني فضاء واسعًا ليس له حدود واضحة… فهو خارج حدود النص.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة