قلما نجد اليوم أطروحات تغييرية تنشد عالمًا بديلا للمنظومات القائمة تخلو من مفهوم اللامركزية كأحد المنطلقات الجوهرية للمستقبل المنشود. ومن المثير أن نجد أن الدعوة إلى تبني هذا المفهوم ليست حكرًا على المجموعات التي تنادي باللامركزية كحل لإشكاليات تكدس السلطات وصناعة القرار بيد القلة، بل حتى أن منظومة السوق الرأسمالية والشركات النخبوية وبعض الدول تبنت أشكالًا من اللامركزية كخيار نفعي (براغماتي) ليس نابعًا من رغبة أصيلة مثلًا في كسر احتكار صناعة القرار. على اختلاف الصّيغ التفصيليّة ومجالات التطبيق ومستوياتها، فإن غالبية الدّعاة للامركزية يُجمعون على أن تعقّد النظم التي نعيشها في حياتنا وصل إلى مستويات لا يمكن لسلطة أو مجموعة مركزية أن تحل تحدياته. وقد بلغ هذا التعقيد مداه لدرجة أن التقنيات التي تُطرح بوصفها معينة لنا في المستقبل باتت تتبنى نهجًا لامركزيًا على غرار البلوكتشين والحوسبة المتوزعة.
يحاول هذا المقال توضيح عدد من التحديات المصاحبة لمفهوم اللامركزية كخيار بديل عن الدولة المركزية وتفسيرها بشكل علمي مشفوع بأمثلة واقعية. والغرض من ذلك تحفيز دعاة التغيير على إيجاد إجابات تعين على التطبيق الفعال لهذا المفهوم الذي نؤمن به. فكما أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، فإن اللامركزية ليست مجرد مجالس بلدية ولجان تنسيقية.
التحدي الأول: ظاهرة الهموفيليا Homophily:
يُعرّف علماء الاجتماع والاجتماع الحوسبي ظاهرة الهموفيليا بأنها ميل الأفراد لبناء علاقات اجتماعية مع الأكثر شبهًا بهم: فكريًا، جنسيًا، طائفيًا، وغيره. هذا من ناحية النوع، أما من ناحية الكم، فإن أشهر مرجع يُستند عليه في ذلك هو ما يعرف برقم دونبار Dunbar's number القائل بأن عدد العلاقات الاجتماعية التي يمكن للقدرة الإدراكية للبشر الحفاظ عليها مستقرة هو وسطيًا 150 علاقة. إن هذا النسيج من العلاقات الاجتماعية الذي يقوم كل فرد ببنائه ضمن مجموعته يفرز الأعراف والهوية والقيم ومشاعر التعاضد التي تميزه. ومع مرور الوقت، يتشكل ما يعرف بحجرات الصدى Echo Chamber، بحيث يصبح كثير من هذه المجموعات البشرية لا تسمع إلا رجيع ما تفضله من أفكار ومبادئ، يعزلها عن الأفكار المغايرة لها، ويغذي انحيازها الإدراكي المعروف بـ "الانحياز التأكيدي" Confirmation bias - ميل الأشخاص لتفضيل المعلومات التي تؤكد أفكارهم المسبقة أو افتراضاتهم، بغض النظر عن صحة هذه المعلومات. (يظهر هذا السلوك جليًّا في التقبّل التلقائي للأخبار المزيفة لدى معظم الناس). وإذا ما وضعنا هذا في سياق اللامركزية، فإن منح أقاليم أو ولايات أو مجموعات بشرية إدارة ذاتية قد ينتج عنه قرارات محلية مجحفة في حق المختلفين ولكنها تحابي مصالح المجموعات الأكبر (استبداد الأغلبية). ربما أشهر مثال على هذا التحدي، ويستخدم لإبراز تفوق الحكم المركزي، هو أن قرار إنهاء العبودية في أميركا كان بأمر من السلطة المركزية في ظل اعتراض ولايات جنوبية عليه، والتي كان لها شكل من أشكال الإدارة الذاتية.
لقد استغلت الدولة المركزية هذه الظاهرة في خلق الاستقطاب السياسي الشعبي وسياسات "فرّق تسد". بل وحتى عندما فرحنا بأن التقنية والانترنت فتحت لنا أبوابًا لنصبح أكثر اتصالاً ونكسر قيد التحرك في مجتمعات تفرض علينا قوانين لا نؤمن بها، استغلتنا هذه التقنيات المدارة من شركات مركزية مع مرور الوقت عبر ظاهرة الهموفيليا تحديدًا لغايات الربح. فشركة كـ فيس بوك تسعى لإبقائنا على منصتها لأكبر وقت ممكن، لزيادة فرص ضغطنا على الإعلانات. ولذلك فإن ترشيح الأصدقاء الجدد قائم على اقتراح الأكثر شبها بنا، وهندسة المحتوى الذي نراه يسعى لتعزيز ما نؤمن به سابقًا وعزلنا في حجرة صدى من ضخ معلوماتي لا يرينا إلا ما نحب، لئلا نُستفز عند رؤية أفكار مغايرة ونترك الموقع.
التحدي الثاني: إغفال ثقافة اللامركزية وممارساتها:
للامركزية خصائص بنيوية تمنحها تفوقًا ذاتيًا. فاللامركزية الموجودة في الأنظمة الطبيعية تتميّز بأن لديها بنى شبكية من عدة أنواع أشهرها يسمى بـ Scale Free Network وتمتاز جميعها بالمرونة والقدرة على تحمّل الصّدمات والتفاعل السريع للعناصر المتحركة داخلها مع المستجدات وفسح مجال الإبداع لهم. ونحن نجد هذه الشبكات في أجسامنا والطبيعة من حولنا.
يمكن تمثيل الشبكات بصريًا كدوائر (تمثل الكيانات) وخطوط تربطها (تمثل العلاقات). والكيانات تختلف في طبيعتها، فقد تمثل الفرد الواحد، أو مجموعة أو منظمة. بينما تختلف العلاقات في أنواعها، الصلبة والناعمة، على سبيل المثال علاقات تواصل، دم ومصاهرة، تبادل تجاري، تبادل معلومات وغيره، وتختلف في قوتها. فالعلاقات القوية هي المولدة لأعراف الجماعة البشرية، هويتها، قيمها، التعاضد والتعاون، بينما العلاقات الضعيفة هي المعينة على التواصل مع الجماعات البشرية الأخرى، بغرض تسهيل الأعمال وإيجاد تعاون أكبر خاصة وقت الأزمات (تم نشر العديد من الأبحاث عن ال Weak Ties وأهميتها مثلاً في المجال المهني في إيجاد فرص عمل، وفي الخلايا الجهادية بإبقائها على اتصال بالشبكة الأم).
يفشل تطبيق اللامركزية عند الاكتفاء باستحداث بعض الكيانات الوظيفية، كمجالس الحوكمة واللجان التنسيقية، دون العمل بشكل كاف على: ثقافة العمل اللامركزي، الأدوار والمسؤوليات، النموذج التشغيلي/التنسيقي، الحوكمة، والتقنيات المعينة، وقياس الأداء. نتحدث هنا عن ممارسات وآليات عديدة من أبرزها اتخاذ القرار الجماعي، فض النزاعات، التنسيق المشترك، حل المشاكل، البحث والتطوير والإبداع، بناء الاستراتيجيات والخطط التنفيذية المشتركة. لعل من أبرز الأمثلة على هذا التحدي هو ما تواجهه القوى الثورية اللامركزية في دولنا العربية وحول العالم (من غيزي بارك في إسطنبول إلى حركة احتلوا وول ستريت) عندما تفشل في التنسيق السريع فيما بينها للخروج بقرارات تفرضها على السلطة. وفي المقابل، تخسر وقتا ثمينا في عقد المفاوضات الداخلية فيما بينها، حتى يصل الأمر لأن تفرض عليهم السلطة أسماء الفريق الممثل للثورة (الذي تنتقيه بعناية) ليحاورها. سمت الباحثة زينب توفيقجي هذه الظاهرة بالجمود التكتيكي.
لابد لنا كناشطين مؤمنين باللامركزية أن ندرس بنية دولنا ومجتمعاتنا لنطور لها الثقافة والآليات المناسبة. ولا بد من التفكير بذلك على شكل خارطة طريق، تبدأ من الوضع الحالي وتسعى لتحقيق وضع منشود، فالتحول للامركزية هو رحلة انتقالية تمر بمراحل تبعًا لمدى نضج البنية الشبكية للمجتمع، من ناحية الأدوار الفردية (المحاور Hubs، عابري الحدود Boundary Spanners، سماسرة المعلومات Information Brokers، أصحاب الخبرة النوعية Peripherals، المؤثرين من وراء ستار Grey Cardinals) والأدوار الجمعية (من الشظايا المتناثرة -الجزر المعزولة- وحتى القلب والأطراف (Core and Peripherals) وتفاعلات المنظومات القيمية).
التحدي الثالث: الانحيازات المستترة والهرمية الخفية
في ظل التحولات التي تمر بها الدول والمجتمعات، وتحديدًا عند حدوث اختلال في ميزان السلطة وتكدسها بيد القلة، تتمكن بعض المجموعات والنخب الأكثر استعدادًا وامتلاكًا للموارد من اقتناص الفرصة وملء الفراغ الحاصل. يكون ذلك على حساب الفئات الشعبية الأكثر تهميشًا والأكثر شجاعة وتضحية. لقد رأينا هذا الأمر على مستوى فردي، كأن يعتلي ابن عائلة ثرية، ممن درسوا في الخارج، منصات الحراك الشعبي للحديث عن مطالب أناس لم يعش معهم ولا يعرفهم عن قرب. ولكن إتقانه لغاتٍ أجنبية وعلاقاته ساعدته في ذلك. وقد رأينا ذلك على مستوى منظمات وتشكيلات اجتماعية في مصر مثلًا بعد ثورة ٢٣ يوليو. فهذه وعدت بتحسين الوضع الاقتصادي وإنهاء الإقطاع، لكن العائلات الثرية تحالفت مع العسكر وأعادت إنتاج نفسها في شكل جديد ضمن للضباط الكبار وأبنائهم مكانا رفيعا في المشهد الاقتصادي.
التحدي الرابع: تراجيديا المشاع Tragedy of the Commons
يتداخل هذا التحدي مع التحديات السابقة ولكن من المهم إبرازه كتحد مستقل لأنه يؤثر بشكل جوهري على البنى الاقتصادية اللامركزية. تراجيديا المشاع هو مصطلح وضعه العالم البيئي غاريت هاردن في 1968 ليصف به حالة استنزاف مورد مشترك لمجموعات متعددة بشكل يُغلب المصلحة الذاتية الضيقة لكل منهم بالرغم من إدراكهم أن هذا الاستنزاف يضر المصلحة الجمعية المشتركة على المدى الطويل. وكما ذكرنا سابقا، فإن إحدى مزايا اللامركزية هي إتاحتها للمجتمعات قدرة عالية على الإبداع وبالتالي التنافس فيما بينها بعيدًا عن تنفيذ سياسات مركزية لم تراعِ مصالحها. ولكن ماذا يحصل عندما يصبح التنافس المحمود صراعًا صفريًا لصالح المجموعة الأكثر حظًا؟
في كندا مثلا، التي تطبق نوعا من اللامركزية على عدة مستويات، تتنافس المقاطعات فيما بينها على خفض الضرائب لإغراء أصحاب المشاريع والأعمال بالعمل لديها، ولكن توجد تشريعات وآليات تحد من إجبار الجميع على الدخول في حرب خفض ضرائب تضر بهم ككل. أما بالنسبة لتباين المصالح وتعارضها في ظل اللامركزية، والحديث هنا بشكل عام، وليس كندا تحديدًا، فإن إدارة ملفات كجباية الضرائب على مستوى المقاطعات والمستوى الاتحادي يطل برأسه كعائق، حيث ترغب كل مقاطعة بخفض الضرائب المفروض عليها تسليمها على المستوى الاتحادي، ويدخل في ذلك الصراع لوبيّات رجال الأعمال ومجموعات الضغط.
فهل يمكن حل هذا التحدي مثلًا عبر مجالس حوكمة تنسق فيما بينها؟ أم أن التقنية بإمكانها تقديم حل يمنع حصول حالة استعصاء يعطل من دورات الإنتاج والاستهلاك وسلاسل الإمداد والتوريد، ويعين على عقد تسويات ملائمة للجميع؟
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة