بعد 100 يوم من الحرب يبدو أن من يشاهد الحقيقة هو واحد أحد لكنه يغض البصر. لا جديد تحت الشمس. شمسٌ حارقة كبيرة مدورة وعلى الأرض مربعّات ومسّطحات بالمقياس الحقيقي المتر بالمتر.
عندما يُسلب منك كل شيء، يصبح الغريب أكثر غرابة. أتسائل مرارًا وتكرارًا إذا كان في وسع الآخر فهم ما سُلِب، بغض النظر عن جنسيته، علمانيته، صدماته النفسية. مرّات عدة، وفي أغلبها، أشعر بأن لا جدوى من ذلك حقّا. ما يهّم، هو أنك وقعت في خانة المسلوب. مسلوب الذكرى والحب والهوية. عالم الاستلاب، "عالم ليس لنا" حتمًا، عالم حجْب الرؤية ومَنعِنا من التعرّف على الإنسان الكامن في الآخر.
إن ما حُرمنا من قيمته في الحياة العادية، يتحول إلى قيمة مادية، أي أنه يباع ويُشترى. نفقد الأمان نطوّر استراتيجياتنا الشرائية لنبيع الشاي الشافي. نفقد الحب فنبيعه كالأغنية العاطفية، المبادئ الإنسانية الرفيعة مقابل السلطة.
لكننا من الغزاوي نريد الكثير والمزيد من الكثير، أن يبذل كل ما بوسعه، أن يفعل المعجزات، نطلب منه التحمّل، والصبر… وحيداً. نطلب منه ما لا نقدر على تحمّله. بينما تتغير خريطة العالم، يتحدى العنصر الإنساني المنظومة، الكذب، الاستهلاك والاحتيال والسرقة. فعلاً، ما هو البيزنس في البلاد؟ دعايات ممولة إمّا عن البطولة الخارقة أو الضحية المهزومة. خطاب ذكوري نعرفه منذ آلاف السنين، وتحديدًا عندما وصم المرأة ومجتمعها الأمومي بالزنا. تتأرجح هذه الأدوار منذ القدم في المجال السياسي والشخصي.

في المجال الشخصي نرى المتلاعب العاطفي، الذي يصف نفسه بالمظلوم والذي يسرق عطفًا بينما ينهب عُمرا أو أرضًا.

في السياسي ومع عرب الـ 48، تدعو إسرائيل إلى السلام. لكنها، في المقابل، تخنق كل تعاطف أو حتى حديث عن الفلسطيني، عن وجعه، عن موته اليومي. يتحدثون عن السلام ويقصون من هذا الحديث الفلسطيني الآخر المتاخم لهم. في الـ 48 لو أن جدّي بقي في غزة ولم يعد، لبِتْنا غزيين الآن. إنها مسألة أقدار لا أكثر أن تكون فلسطيني لكن على جغرافيا مختلفة. وما زلت لحد الآن لا أفهم الحركات المسالمة، التي تدعو إلى المؤاخاة أو الحب بين الفلسطيني والإسرائيلي، من دون أن يتغيّر أي شيء في المعاملة الظالمة وفي سياسة التحقير والتفقير؟ 

هل يرى الاسرائيلي في الفلسطيني قيمة غير مادية؟ هل نسينا الحواجز بين الضفة والـ 48، بين غزّة وبقية فلسطين. كيف لا نرى بالمقاومة فعلًا ينبع من كرامة الإنسان ويدعو إليها؟ 

وفي السياسي أيضًا، تتخبط دولة بأسرها في الحرب، من دون أن تعي إذا كان باستطاعتها أن تخرج من الأزمات ملأى اليدين. وتستمر في البطش، آملة أن تضرب الفلسطيني الضربة القاضية. وبينما تواصل الآلة توحشها، أخذت شعوب قريبة وغريبة تراشقنا بجرعات غير متوقعة من الحسّ الإنساني في التضامن والتعاضد.
شعوب انتزعت حقوقها من ظلّامها، كجنوب أفريقيا، وقررت أن توجه إصبع الاتهام إلى إسرائيل كدولة فاشلة "ديموقراطيا"، شعوب أصلية في عمق بلاد الاستعمار عادت بها ذاكرتها إلى وحشية الأوروبيين. وشعوب من أميركا اللاتينية وأوروبا قالت كفى. هؤلاء والمجموعات المقاومة في أرضنا يعرفون جيداً ما يؤلم من ليست لديهم في قواميسهم كلمة الكرامة.

لكأن الفصل بين الهويات انتفى، ولو مؤقتًا.

الصورة : رسم لـ فؤاد اليمني fuad_alymani@

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button