* غسان الحاج (مواليد 1957 في بيروت)، باحث وأكاديمي يُدرّس الأنثروبولوجيا والنظرية الاجتماعية في جامعة ملبورن بأستراليا. صدر له مؤخراً كتاب "حالة الشتات" (The Diasporic Condition)
لم يصبْ الانهيار الحاصل منذ 2019 جموع السكان في لبنان فحسب، بل أصابت تردداته آلاف المغتربين اللبنانيين "المنتشرين" في بقاع الأرض. عادوا، إفتراضياً، عبر خدمات تحويل الأموال، نجدة لأهلهم في أرض الوطن، وعادوا عبر الشاشات، يقترحون حلولهم التكنوقراطية النابعة من حبّهم للبنان وكرههم "للنظام الفاسد"، عادوا من خلال الواتساب والتطمينات والتطمينات المضادة. عادوا وبقوا هناك، في بلاد الإغتراب. نسأل: لماذا يبقى اللبناني بيننا هنا، وهناك، منتشراً؟ وكيف؟ نحاول، في حوارنا مع الدكتور غسان الحاج، فهم الحالة التي يعيشها المغترب اللبناني، علّنا نتعرّف أكثر على أنفسنا وعلى مصائرنا، هنا...أو هناك.
في كتاب صدر لك مؤخراً، تستكشف ما أطلقت عليه تسمية "حالة الشتات" (The Diasporic Condition)، وهو نمط جماعي للوجود في بيئة ثقافية مشتركة تتجاوز المسافة المكانية والزمانية. ما هي العناصر الرئيسية التي تشكّل "حالة الشتات"؟ هل يمكننا تحديد لحظة معينة في التاريخ ظهرت فيها هذه الحالة؟
فئات كبيرة من الناس تعيش اليوم على تقاطع ثقافات شتات مختلفة، وسيدرك معظم اولئك أن ما أتحدث عنه ليس غريبًا عنهم تمامًا. من السمات الرئيسية لـ"حالة الشتات" ما أسميه "the internationalisation of the space of viability" أو تدويل المساحة القابلة للعيش. تتضمن ثقافة الشتات وعيًا بالعالم كلّه كمساحة تسمح للمرء أن يكسب لقمة العيش، أو أن يسير نحو "الحياة الجيدة". من المؤكد، في لبنان كما في أي مكان آخر في البحر المتوسط، أن الوعي بالواقع العالمي المكوّن من أناس مختلفين يعيشون في أماكن مختلفة هو وعي يسبق الحداثة الرأسمالية. ولكن ما يهمني هنا هو تسليط الضوء على اللحظة التي يتوقف فيها شخص ما في قرية في منطقة نائية من لبنان عن التفكير في أن قريته أو منطقته هي الحدّ الجغرافي الأقصى من أجل كسب لقمة العيش. بدلاً عن ذلك، يرفع رأسه ويقول: أين يمكنني أن أذهب؟ هذا الشعور، عندما يحدث، يعد تغييرًا مهمًا في الوعي وفي طرق إدراك العالم.
ربما كان هذا شعور "المغترب الأول" أنطونيوس البشعلاني عندما فكّر بالهجرة لأوّل مرة. أعتقد أن تمثاله أمام مرفأ بيروت ما زال يفكّر ويسأل نفس السؤال. إذن، أن تهاجر أو لا تهاجر؟ هذا سؤال وجودي بالنسبة لكثيرين منا، موت بطيء أو وعد بحياة جديدة، ولكن من دون أية ضمانة. كيف نجيب على هذا السؤال؟ وهل يجيب الناس دائمًا بصدق على هذا السؤال؟
حسناً، ترتبط معادلة الهجرة بالوجود ارتباطًا وثيقًا بتدويل المساحة القابلة للعيش. لم تكن الهجرة ضرورية أو حتى مرغوبة أو ممكنة للجميع، إلا أن الهجرة كانت بمثابة قوة جاذبية بديلة تسحب الناس نحوها كمسار في الحياة. لذا، إذا كان على أولئك المهاجرين تحديد سبب هجرتهم، فيجب على أولئك الذين بقوا في بلداتهم أن يشرحوا أيضًا سبب بقائهم. أي أن من لم يهاجر يحتاج إلى تبرير خياره لنفسه أولاً وللآخرين ثانياً. تشبه معادلة الهجرة وعدمها معادلة "أكون أو لا أكون".
مريدو الهجرة التي لم تتحقق أمنيتهم يربطون الهجرة بالحياة وعدمها بـ"العدم" و "التعفّن". وهذه من الروابط الأكثر ديمومة في قلب ثقافة الشتات. لقد قابلت أشخاصًا في بلدات لبنانية قالوا إنهم غير مهتمين بالهجرة. الأمر المثير للاهتمام هو الطريقة التي يتصرفون بها كما لو كانوا يقاومون الهجرة. أي، في حين لم يرغبوا في الهجرة، لم يكونوا غير مبالين بها. ظل أحد الرجال يصرّح لي بأنه لا يريد الهجرة وأنه "راضٍ" في لبنان. لقد كرّر الكلمة مرارًا حتى اشتبهت في أنه ربما غير قادر على الهجرة، وهكذا كان يصنع فضيلة من "البقاء" ليبرّر نفسه. لكن بعد فترة وجيزة، عندما تعرفت عليه وعلى عائلته بشكل أفضل، أدركت أنه يمكنه الهجرة بسهولة إذا اختار ذلك. كان راضياً حقاً بالبقاء. فاضطررت إلى إعادة النظر بطريقة تعاملي مع الرضا. لقد جعلني هذا الرجل أقدّر مدى جذرية "الشعور بالرضا" في مواجهة "الرغبة في التحسين والتقدّم" التي هي روح الحداثة الرأسمالية. والأهم من ذلك بالنسبة لاهتماماتنا الإثنوغرافية المباشرة هنا، أدركت أيضًا أن حاجته لتكرار أنه راضٍ كانت شكلاً من أشكال التعويذة. كانت بمثابة تعويذة مضادة تهدف إلى حمايته من الوقوع في قبضة الهجرة.
في رحلاتك الإثنوغرافية، تراقب كيف يؤسس المهاجرون اللبنانيون وعائلاتهم أنفسهم في ديارهم الجديدة مع حفاظهم على قنوات اتصال بلبنان. ثم ينظرون إلى كل شيء في الخارج بعدسة لبنانية. أي أن كل شيء يذكرهم بلبنان. لماذا ينتشر هذا السلوك في مجتمعات الشتات اللبنانية؟ وما الهدف الذي يخدمه؟
ما يميّز خصوصية حداثة الشتات هو أن المنطق المقارَن مكاني أولاً وليس زمانياً. إنه الإثنين معاً دائماً، ولكن في ظلّ حداثة الشتات يصبح الحيّز المكاني المقارَن أكثر وضوحًا.
في مارس 2001، قابلت في سان فرانسيسكو عائلة أميركية لبنانية. كنا نتحدث عن الأعياد والعُطَل عندما اتخذت المحادثة منعطفًا مثيرًا للاهتمام. "هل يمكنك رؤية أي شيء والاستمتاع به بحدّ ذاته؟" قال الزوج للزوجة ممازحاً. إنه يشكو لنا جميعًا، نحن الجالسين على الطاولة، من أنه عندما ذهبا مؤخرًا في عطلة إلى الغراند كانيون قالت زوجته: "يُذكّرني بوادي قاديشا". تابع الزوج: "أعني، يا رجل، هذا جنون، أليس كذلك؟ لقد زرت وادي قاديشا وأحببته. لكنه مجرد وادٍ. كيف يمكنك الذهاب إلى غراند كانيون وتفكّر في وادي قاديشا؟ بربّك!" ثم أضاف: "نبقى على هذه الحال دائمًا، نذهب لرؤية هذا المكان ويذكرها بذلك. هل هناك أي مكان على وجه الأرض يمكن رؤيته ولا يذكركم بشيء في لبنان؟". بين المزاح والغضب، كان المتحدثون يتطرقون إلى سمة مميزة لحالة الشتات. في الواقع، من شبه المستحيل رؤية شيء ما و "الاستمتاع به بحدّ ذاته". إذا تم اصطحابك إلى مكان ما مع اللبنانيين، فعادة ما يقارنون نيابة عنك قبل أن تصل إلى هناك: "انتظر حتى ترى هذا، إنه بالضبط مثل المكان الفلاني في لبنان".
عندما وصلت إلى سيدني لأول مرة في 1976، أخذني أقربائي على وجه السرعة لزيارة "بولي باس"، وهو ممر جبلي يبعد حوالي 100 كيلومتر عن سيدني. قالوا لي أنه يعطي منظرًا من الجبل إلى البحر "تمامًا" مثل سيدة لبنان في حريصا. أثناء القيادة إلى بولي باس، قضيت وقتاً طويلاً أستمع إلى الناس يتحدثون عن ذكرياتهم في حريصا. أتذكر بوضوح شديد ما قاله عمّي الذي كان يقود السيارة (عمّي وُلِدَ في أستراليا ولم يزر لبنان من قبل)، كان يقول لي: "كلما أخذت الناس إلى بولي باس، تعرّفت أكثر على حريصا".
مقارنات الشتات، إذن، تنطوي على تبادل للارتباطات القيّمة من أشخاص وأماكن وطعام وأشياء أخرى. ومع ذلك، فإن هذا التبادل يرتكز دائمًا على علاقة غير متكافئة. غير متكافئة ليس للأسباب المعتادة التي يشير إليها المحللون مثل التخلف، والاستعمار، والعنصرية، إلخ ... بل لا تكافؤ ناتج عن جرحٍ أو أذى أو ضرر تعرضّ له المغترب.
الهجرة هي تجربة غير سهلة، إن كان على المستوى الفردي والجماعي. فهي أولاً، في معظم الأحيان، تهجير قسري تفرضه المجاعات والحروب وآفاق الحياة المحدودة والظروف الاجتماعية والاقتصادية. ثانيًا، قد يشعر المهاجرون بأنهم تُركوا وحيدين، ليتدبّروا أمورهم بأنفسهم في مكان آخر قد يكون بالنسبة للبعض بمثابة "عالم آخر". برأيك، ما الذي تنطوي عليه هذه التجربة من حيث إدراك الذات وإدراك الآخر؟
منذ اللحظة الأولى التي تستولي فيها حداثة الشتات عليهم، لحظة انطلاقهم إلى العالم والتفاعل مع الآخرين (حتى عندما يدّعون انتماءهم إلى روح أسلافهم الفينيقيين ويصورون أنفسهم كمنتصرين يخوضون البحار والقارات) ينظر اللبنانيون إلى أنفسهم، في الحقيقة، من منظور دوني، ويحصل ذلك حتى قبل أن ينظر إليهم "الآخر" العنصري.
إنهم يرون أنفسهم على هذا النحو ويخجلون من هذه النظرة الذاتية. هذا السلوك ليس وليدة استيعابهم للعنصرية الاستعمارية الغربية، التي ترى العالم من منظور الرجل الأبيض "المتقدم" من جهة و"المتخلفين" في العالم الثالث من جهة أخرى. للتوضيح، هم فعلاً يستوعبون هذه العنصرية ويضعون أنفسهم داخل المعادلة. ولكن هذا لا يفسر نظرتهم الدونية إلى أنفسهم، والتي نلاحظها حتى عندما يهاجرون إلى دول العالم الثالث في إفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث يتبنى كُثُر منهم مفهومًا غربيًا عنصريًا معاديًا للسكان المحليين و الأصليين. إذاً، ما وراء هذا التصور ليس مرتبطاً بالحداثة والتطور الرأسمالي، بل شيء أبسط بكثير. إنه صورة شخص ينتمي إلى وطن يترك أبناءه لأنه غير قادر على رعايتهم. أو كما قال لي لبناني فنزويلي بشاعرية: "نحن الشعب الذي لا تستطيع دولته الاحتفاظ به". إن هذا الإحساس البدائي بالضرر هو الذي يصنع علاقة غير متكافئة مع أولئك الذين "يمكن لبلدهم الاحتفاظ بهم". تقع هذه العلاقة في صميم ما أشير إليه في الكتاب بـ التباين الشتاتي (Diasporic anisogamy) (مصطلح anisogamy هو مصطلح أنثروبولوجي تقني يشير إلى الزواج، ولكنه بشكل عام يشير إلى نظام تبادل غير متكافئ بين عدة أطراف).
ذات مساء في ملبورن أثناء جلوسي إلى مائدة العشاء مع عائلة لبنانية، كان الأب يعبّر عن أسفه بأن الأستراليين ما زالوا يعتقدون أن لبنان هو صحراء وجِمال. بدأ يتباهى بجَمال لبنان وجهل الأستراليين. ثم قاطعه ابنه: "نعم يا أبي، ولكن الحقيقة لا تزال هي أنك أنت من هاجر إلى أستراليا؛ الأستراليون لم يهاجروا إلى لبنان". "وماذا في ذلك؟" أجاب والده متهربًا تمامًا من حقيقة أثارها ابنه، "لمجرد أنهم أغنياء لا يعني أنهم أفضل منا".
مرارًا وتكرارًا أثناء عملي الميداني، يظهر "اللبنانيون الذين هاجروا" على نحو يذكرنا بالأذى أو الجراح الطبقية: هناك مصدر خزي يجب إخفاءه. يبرز عمق هذا الجرح في محاولات الطمس العديدة التي يقوم بها المغتربون لتجنّب الحديث عنها داخل ثقافة الشتات اللبنانية. في الواقع، يمكننا أن نقول إن مجمل الأساطير التي تتحدث عن اللبنانيين المغامرين هي جزئيًا محاولة للتهرب من مصدر هذه الأذى وعدم التصالح معه تمامًا: حالة الفقر وعدم قدرة الدولة اللبنانية على تقديم مستوى حياة مقبول لجميع فئات شعبها. وعلى الرغم من القوة الدافعة لحافز الهجرة، فإن موضوع الشتات اللبناني مشتّت دائمًا بين مشاعر متناقضة أثارها هذا الأذى الأصلي: يحبّ اللبناني لبنان وعائلته، ويشعر بالعار من أن لبنان غير قادر على "الحفاظ على شعبه"، ويشعر بالعار لأنه يعيش هذا العار ويرغب في حماية ما هو خيّر في لبنان رغم كل هذا الأذى.
إذاً، يبدو ذلك كطريقة للتكيف أو التعايش مع الصدمة، تمامًا مثل استخدام الطفل لآلية دفاع لعجزه عن الجمع بين الجوانب الحسنة لأمه (جيّد) والجوانب غير المستحبة (سيّء)، لذلك يتعامل الطفل مع جانبي أمّه ككيانين منشطرين (Splitting).
صحيح، أحد أبرز الأساليب الشائعة للتعامل مع هذا هو تقسيم لبنان إلى جانب سيء وجانب جيّد، حيث يهدف التقسيم نفسه إلى "حماية" الجانب الجيّد. أحيانًا يكون التقسيم جندرياً: "لبنان مكان جميل حنون (أنثى). من المحزن أنه ليس لدينا دولة (ذكر) قادرة على حماية ورعاية هذا الخير وتوزيعه على جميع السكان بشكل عادل"، أو "لولا الدولة اللبنانية وما فعلته بنا فمن كان ليترك لبنان؟" و "هذا البلد جنّة. السياسيون يحوّلونه إلى جحيم. لكن بالنسبة لي يبقى جنّة. هذا ما أشعر به، أشعر أنني مجبر على مغادرة الجنة". طبعاً في أمثلة أخرى، أحيانًا، يجري تقسيم لبنان "الطبيعة" (خير) ولبنان "الشعب" (سيء).
على الرغم من خطورة تقديم نهاية "كليشيه"، ننهي حوارنا بدعوة صادقة للجميع لإعادة النظر في كل ما "تعلّمناه" عن الهجرة وورثناه عبر الأجيال، وحتى إعادة النظر بأغنية فيروز "بحبك يا لبنان"، وهي نشيد المغتربين بإمتياز، والتي تعبّر عن كثير من الأمور الذي تحدثنا عنها في هذا الحوار من صراع داخلي بين البقاء أو الهجرة وتناقضات العلاقة بين المغترِب وبلده الأم: * عندك بدي إبقى \ ويغيبوا الغياب \ إتعذب وإشقى \ ويا محلا العذاب * بفقرك بحبك \ وبعزك بحبك \ بجنونك بحبك (وطبعاً أصبحت عبارة "بجنونك بحبك" شعاراً لحملة وزارة السياحة هذا العام.)
كل شتات وأنتم بخير.
الرسم: بولي باس لـ أ. ه. فولوود، 1892
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة