بعدَ مضيِّ حوالي 14 سنةٍ على نشيدِ الاستسلامِ العربيِّ "دا حلمنا طول عمرنا"، بزغَ الحلمُ الأكثرُ عقلانيّةً، الأشدُّ احتياجًا، والأكثرُ ضرورة. صفعةٌ مذلّةٌ طبعَتها بقوّةٍ حارسةُ نظامٍ مستبدٍّ على وجهِ بائعِ خضارٍ متجوّلٍ بهدفِ إذلالِه ووصمِه بالعارِ، سرعانَ ما ارتدَت عليها، وكانت كفيلةً بأن تهزَّ عرشَ مملكةٍ حكمَت بقوّةِ الصّمتِ وهيبةِ الحظر.
في عام 2011، كان العالم العربي، حرفياً يغلي. أجساد تأكلها النيران، أرواحٌ تتهاوى، حناجر تتمزق، أصواتٌ لا تنام. على هذا المنوالِ قرّرَت الشّعوبُ العربيّةُ أن تتحرّرَ من كوابيسِها وتأخذُ من الأُمنيةِ/الحلمِ طريقَها للعيش. غليانٌ مصحوبٌ برعشةٍ، رعشةٍ مصحوبةٍ بلحظةٍ، تلك اللّحظةُ الّتي كانت في يومِ من الأيامِ مستحيلةً، حَضرَت، ولم يكن ينقصُها سوى الزّمنِ الّذي تحملُه في طيّاتِها لتتحقّق.
في عامِ 2011، كان العالمُ العربيُّ يغلي. مونديالٌ سياسيٌّ والكلُّ يترقّب. العجوزُ الصّارمُ، الّذي لطالما صكَّ القوانينَ حسبَ أهوائه، العجوزُ القبيحُ الّذي صنّفَ باعتباطيّةِ الممنوعِ من المسموحِ، كان قريبًا من الخسارةِ، ليُصبحَ الأملَ، وفقًا لسعد الله ونوس، هو الحاكمُ المُطلقُ، وليس الوحيُ الانتهازيُّ المقيتُ صاحبُ القبضةِ الحديديّةِ الّتي تحطّمُ مزاجيًّا قلوبَ البشر.
وحدثَ أن سجّلَ أحدُهم هدفًا في مرماه.
وحدثَ أن اندلعَت حربٌ شعواء.
وحدثَ أن صدّقَ أحدُهم الاستعارةِ، وغاصَ في غموضِها؛ فأن تعطي مجازًا شعريًّا لحدثٍ استثنائيّ في الفضاءِ السّياسيِّ، ما هو سوى للدّلالةِ، وليسَ للمبالغةِ أو للتّرويجِ أو لإعماءِ الأذهانِ من الواقعِ وزجِّ الوعيِ في عالمِ الخيالِ، ثمَّ إنَّ هذا يصنعُه المستقبلُ، بعكسِ ما حصلَ، حيثُ باتَ الشّتاءُ القارسُ ربيعًا والربيعُ يزهرُ أشباحًا وأمواتًا.
وحدثَ أن عادَ منطقُ أرسطو إلى الواجهةِ مجدّدًا، وقُطعَت الطّريقُ أمامَ أيِّ خيارٍ ثالثٍ، وبتنا أمامَ التّعليبِ الدّوغمائيِّ، فأصبحَت المُعادلةُ قائمةً على التّطابقِ والتّماثلِ، وبريقُ التّمايزِ مفقودٌ وفي أحسنِ الأحوالِ غيرُ قابلٍ للتّصديق.
وحدثَ أن تحوّلت الثورةُ إلى ثروةٍ، والوطنُ إلى دويلاتٍ، والفردُ إلى أفرادٍ والحياةُ إلى زورقِ نجاة.
وحدثَ أن اغتيلَ الخيال...
وحدثَ أن تحوّلَ عالمنا العربيُّ إلى محطٍّ مجانيٍّ للاستغلال.
وحدثَ أن عادَ الحلمُ العربيّ إلى جذورِه، إلى سباتِه العميقِ، إلى الكابوسِ الّذي لا يولدُ إلّا من التّراجيديا.
وحدثَ أن، وهي معلومةٌ بسيطةٌ وحجمُها ضحلٌ أمامَ الفاجعةِ المهولةِ الّتي كرّسَتها الأحداثُ لكنّها قد تهمُّ المتابعينَ والمحبّينَ والأصدقاءَ، حدثَ أن توقّفَت مجلّةُ "رحلة" عن الصّدورِ وفي جعبَتها 5 أعدادٍ اجتمعَت في قبضةٍ واحدةٍ، وأتى عددُها الأخيرُ ساخطًا، تحتَ عنوانِ "يسقطُ كوكبُ العجائز"، فالّزمنُ آنذاك كان مكثّفًا وثقيلًا وخائبًا وخطيرًا.
وحدثَ أن،
حدثَ الكثيرُ وما زالَ يحدثُ،
ويحدثُ أنّنا في عددِنا هذا، "إزرعوا أيديكم في الريحِ… 10 سنواتٍ مضت"، نعرّجُ سريعًا على ذاك الماضي بعد اندلاعِ ما سُمّيَ بِـ "الرّبيعِ العربيِّ"، ليسَ من أعينِ المتفرّجِ بل من عيونٍ ثاقبةٍ نقديّةٍ، في محاولةٍ للإفصاحِ كلٌّ على حدةٍ عن تصوّراتِه: ما الّذي حدثَ تحديدًا؟ ما هو الخللُ الّذي سبّبَ هذا العقمُ؟ وما الّذي أتاحَ لكلِّ أشكالِ الدّمارِ هذه أن تتشكّل؟
ملاحظة: شكرًا لكلِّ من ساهمَ في إنجاحِ هذا العملِ (نقصدُ المجلّةَ)، من فريقٍ وكتّابٍ وداعمينَ على موقعِ پاتريون. الرّحلةُ مستمرّة.
صورة الغلاف: مهاجرون من المغرب وبنغلادش على متن زورق مكتظ في البحر المتوسط. كانون الأول 2020. (سانتي بالاسيوس)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة