"إذا قيل للطفل أنَّ كسرَ ساقه خطيئة، فكم ستكون حياته مؤلمة، وعلى الأرجح أنه سيكسر ساقه. وهكذا يختنق هذا الشاب في الإطار الضيّق لحياته ووعيه. يصرخ من أجل... ماذا؟ شيء مختلف، شيء ممكن ... وماذا عن أفكاره؟ لا يجلبون له أي خلاص، ولا إحتمالات للمستقبل."*
أن تكسر ساقك وتلهث ماشياً بحثاً عن بلاد لا تشبهك، فهذا ما ستكون عليه حياتك بدءاً من هذه اللحظة. وسترافقك الخطيئة في بلاد الغربة. ولكن الأهم من ذلك أن هذه البلاد الجديدة ستسمح لك بتنشق بعض الهواء النظيف و"العيش الكريم" قبل أن تتابع سيرك الأعوَج. "هل أنا أطلب الهجرة فعلاً؟"، تسأل، تعيد تنظيم أفكارك، تحاول، تتأكد من ترابط الأفكار في ذهنك، لا جدوى، ترتعب من بنات أفكارك، تُشغلها بالتفاهات، تشعر كمن يفكّر بالانتحار، الغربة انتحار… الغربة انتحار. تستنسخ وتتقمص تجارب آخرين: هذا هاجر وبقي هناك، هذا "قلّع منيح"، هذا يمارس هواية جميلة في مدينة أوروبية بالرغم من ساقه المكسورة. هذا اشترى شقة في ربوع الوطن. هذا يزور لبنان كل بضعة أشهر، "على حساب الشركة". هذا رحل ولكنه كئيب ووحيد في المهجر. هذا عاد إلى ربوع الوطن الماسي، لم يناسبه "الجو" هناك، يقول بِخَجَل.
تُوسِّع البيكار (إياك أن تكسر ساقك الثانية وأنت توسّع)، تستعرض، تراقب، تفكّر، تقيّم، تبرّر: أجدادنا هاجروا، مرة واثنتان وثلاث، موجات متتالية. القصة بسيطة، تَحرّك، هذا هو الخيار الصائب. تقف استعداداً للتحرّك، ثم تلتفت إلى الشاشة الصغيرة وهي تغمز من قناة ترددك: "هيدا قدر اللبناني" يقول لك مقدّم البرامج التلفزيونية السمج، "إذهب وأرسل لنا الدولارات، 100، 200، لا تتأخر".
تتفلسف وتضحك على نفسك: "وما هي الحدود أصلاً؟ هنا أو هناك، ما بتفرق، ستجد وطناً ثانياً، وثالثاً، إذا حالفك الحظ. وإن لم تجد شغفك في بلاد الأرز فستجده هناك - تلك البلاد مليئة بالنشاطات الترفيهية بعد دوام العمل. تحمل ساقك وتقفز عبر الحدود وعبر الحياة الخانقة ومحدوديتها.
قبل أن تغادر، ستصادف تمثال المغترب الصامد أمام المرفأ. ستجرّ ساقك وتسأله عن أحواله. سيجيبك بأنه يفكّر بالهجرة أيضاً: "تعبت من الجمود، بركي بروح بشي شحنة كسر سيارات أو خردة وأعيد صقل نفسي بنفسي من جديد، ربما أشلح الشروال وأرتدي سروالاً من متاجر زارا، New man". يرفع تمثال المغترب لبّادته عن رأسه ويقول "يمكن للبروليتاري أن يصبح إنساناً جديدًا". تفكر لوهلة، تحوّل ما قاله للتو صديقك التمثال إلى شعار لحملة إعلانية لمتجر ملبوسات "الرجل الناجح يعيد اختراع نفسه دائماً". طبعاً، لن يكسبك الحديث مع التمثال أي وعي جديد، مجرّد شعارات لحملات تسويقية ستفاجئك وهي تصدح من التلفاز. لن يصنع منك الحوار مع صديقنا التمثال إنساناً جديداً، وستبقى ساقك معطوبة وستعود خنقة الصدر إليك، سيحوّلك الحوار إلى ما هو أسوأ، وستعتاد على الجديد القديم.
بعد نشوة انتصار أولية نتيجة اتخاذ قرار الرحيل، مصحوبة بعبارة ختامية "مافي أمل من هالبلد"، تشعر مجدداً بالذهول من هول الفكرة، تحاول فهمها من جديد، بـ"عقلانية". ها أنت تتخيّل ماذا ستكون عليه هذه الحياة الثانية، فلا ترى شيئاً سوى صورة لك على علبة من كرتون معدّة للتصدير كتب عليها "Fragile, handle with care"، أي قابل للكسر، كَساقك. إنسى ال New man . وعلى جبهتك السمراء كتب مخلّص البضاعة بالخط الكبير "This side up". يطمئنك رئيس جمعية الاوليغارشيين "اللبناني كيف ما تزتو بيجي واقف". يرافقك في رحلتك "تمثال المغترب" المغترب. تدرك أنك على متن طائرة شحن، تتجه نحو هدف ما، تجهله وتفشل في استيعاب معناه، تشكّك مجدداً بقدرة العقل على إيصالك إلى حياة جديدة ومختلفة عمّا سبقتها، فتلجأ إلى العبث. تتواضع في أمنياتك وتتخلى عن فرضية أن حياة أخرى "أفضل" قد تكون ممكنة. تكتفي بطلب تكرار حياتك كما هي، في مكان آخر، مع فرصة البدء من جديد. تجّر ساقك في حقيبة وتلفّ الخنقة حول رقبتك، نقطة على السطر، وتعتاد ذلك، يمرّ الوقت في الغربة، الشغل ماشي. ولا يهمّك. تتمسّك بالأمل. الأمل: "حبل يتدلى من الإنسان، إلا إذا استخدمه ليشنق نفسه"، يقول لوفيفر.
تتذكّر الوطن. تفكّر بالحفاضات على الرغم من أنك شاب أعزب، bachelor حائز على شهادة bachelor in marketing. تفكّر بالحفاضات diapers كلما قرأت كلمة دياسبورا diaspora على مواقع التواصل. الحفاضات ضرورية، بل أساسية لمسح خراء الوطن - الطفل العنيد. وحيث أن الدياسبورا هي حاضنة الوطن وحفاضه، تمدّ يدك إلى أهلك في الوطن عبر حوالات الوستر يونيو. طبعاً، لن نتركك وشأنك، وأنت، لا ولن تقطع حبل الوريد أيها المغترب الدياسبوري، مفتاح الانتخابات النيابية المقبلة. سوف تصبّ العرق الممزوج بالتقدّم الغربي في صندوق الاقتراع. ستصبح خياراتك أكثر تقدميّة، عصرية، خارج القيد الطائفي، ستصوّت لصالح لائحة جيل جديد من القادة الشرفاء، "الشعب قرّر"، إنتا الـ new man. وبعد الانتخابات الالكترونية ستزور الوطن في الإجازة الصيفية، لا تنسى "Fragile, Handle with care". ستعود وإلى جانبك نفس الساق المعطوبة، ومع خنقة أقل في صدرك. على جدول الأعمال: ستصرف دولاراتك حسب سعر الصرف، "كزدرة وعشوات وغدوات"، بحر وجبل، "صيف لبنان بلّش"، "يا مغتربين ارجعوا". تقول لهم "أنا بخير"، مالياً طبعاً. أما ساقك، فتجرّها ذهاباً وإياباً، من المهجر وإليه. يقولون أنك "مغترب ناجح"، رفعت إسم لبنان بساقك. تختنق بالمازة اللبنانية، تطلب قنينة بلاك، توزّع الهدايا، تشيرز، يخلّينا. تعتقد أن الخنقة اختفت. تتشردق بطفولتك وتتلعثم بهزائمك. تشعر كما لو أنك تحتضر منذ أن ولدت في هذه البلاد. تغادر لبنان على عجل، تقول للأهل: "ما بتحمل الزيارة أكتر من أسبوعين، ما بقى معوّد عالعجقة وقطعة الكهربا، ما في تنظيم، كيف بعدكن عايشين هون". مش مهم، المهم أن نحافظ على الصورة. "ما هي هذه الصورة؟" تسأل بنات أفكاره. تجيب: صورة تخفي ساقي، وخنقتي، وانتحاري المؤجّل.
_____________
* هنري لوفيفر، نقد الحياة اليومية
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة