لا أشعر بالارتياح عندما أستقبِلُ ضيوف والدي في منزلنا. أشعر بأنني أنا الزائرة وأن صالوننا يتسع للجميع ولنكاتهم الذكورية الثقيلة عدا الكنبة التي سأجلس عليها. أذكر عندما كنت جالسة مع الضيوف أسابقُ الملل وفي منتصف الحديث وضعت ساقاً على ساق وإذ بوالدي يقطع الحديث ويعتذر من الجالسين قائلاً بنعومةٍ حادّة "عفواً حضرة الجالسين...عيب حبيبتي تحطّي إجر عإجر بوج الرجال هيك". يعتقد أبي أنّهم رجال ناجحون يستحقّون الاحترام خصوصاً أنّ واحداً منهم كان شيخاً وكما فهمت فإنّ ساقاي قد شكّلتا تهديداً لشؤون رجال الأعمال ولعمامة الشيخ. لم أعرف ماذا أقول. منذ متى أصبح الجلوس بهذه الطريقة مهيناً؟ فهمت حينها معنى بالون الأنا عند الرجال. لم أتلقَّ تعليقاً كهذا من أُمي قطّ وإن كنت قد قابلت العديد من النساء اللواتي تنطبق عليهنّ صفة النجاح التي قرع أبي رأسي بها. يقتضي احترام الرجال بأن أُحجّم من جسدي كما أحجّمه وأنا أمشي في الشارع راجية الاختفاء في مسرح القلق.
يجب عليّ أن لا أسمح لنفسي أن تجود كثيرا في الحديث (أو في الحماسة) عندما أتناسى أنني لست بطلة القصة ضاربةً هيبة الرجال بعرض الحائط. كنت حينها أردّ على رجل اعترض على علم النفس الغربيّ لأنّه لا يأخذ بعين الاعتبار وجود طاقة أو ذبذبات شيطانية تتمظهر عند العبد البعيد عن الصلاة – وجهة نظر دهشتني. أردت أن أدافع بشراسة عن طهارة البشر من شيطنات رجال الدين لكن تعليق والدي قيّد تعبيري عن نفسي بالكرسيّ الذي كنت أجلس عليه.
لكل جمهورٍ مسرحية ولهذا الجمهور أتظاهر بالسذاجة؛ أتظاهر لوالدي بأنّي أحتاج إلى صديقه الأصلع ذي كرشٍ تنبطح عليه ذقنه العريضة لكي يفسّر لي معنى النجاح. شعرت أن الكرسيّ الخشبيّ أكبر منّي؛ لا بل أنّ مكاني على الكرسيّ سُرِق كما وجسدي وانفعالاتي غير المدروسة. شعرت أنّني ألعب في ملعب الكبار؛ أنّ جسدي أصبح محور الصمت، أنّه مِلك جميع الحضور إلّا أنا. بالطبع، ليس شعوراً جديداً بل هو العاديّ والمطلوب. أراه يلاحقني أينما ذهبت حتى في متجر الأيسكريم عندما سألني "ليش معصبة" لمجرّد أنّني تركت المياعة للأيسكريم، لمجرّد أنّني لم أبتسم. هي سرقاتٌ صغيرة كالقضمات تريد أن تسلبني من الوجود.
أعتقد أن أنانيتي بمساحتي الشخصية تولّدت كردة فعل على قبلات شائكة من صديقات جدتي المسنّات لدرجة أنني، في صغري، كنت أتمنى لو أن المشاة يرتدون طوق "هولا هوب" خفيّ يمنع التعدّي على مساحة الآخر الشخصية. لم يتحقق حلمي بالـ"هولا هوب". بالعكس، أصبح الشارع ضيّقاً عليّ وعلى بنطالي فكيفما ألتفت في الشارع تطالعني سيارات التاكسي فيفرّ من أمامها بصري من جديد كأن لا مكان له ليستريح.
يتّسع الشارع للمضايقات أو "التلطيشات". وتتجذّر تلطيشات من "لَطَشَ" أي سرق أو باغت الشخص دون علمه. تتجسّد هذه السرقة في (محاولة) تلطيخ الجسد بالكلمات أو النظرات التي تسرق هناءه.
الشارع مكانٌ عام للجميع. البيت مكانٌ خاصّ لأهله. تلخبط الرجال ففهموا – كما تلخبطوا في فهم الدين (أو لخبطوه) - أن وجودهم في المساحة مهما كانت، يخصّصها لهم. أما المرأة فتبقى شخصية غريبة في الفيلم المكسور. ضاعت الطاسة ومعها "الهولا هوب" خاصّتي لكنّني أرتديها وإن كانت بعض أزقّة المدينة بالكاد تتسع لساندويش من عند "ساندويش ونص".
أحاول مهما كان أن أجد أو أخترع هولا هوب لأبقى. أخيطها من سحابة أو من الكلام الذي أعجز عن قوله. تضيع وراء الخزانة أو في مرآة الشيفونيرة؛ في أزقة بيروت المظلمة أو في ساعات انتظار وثيقةٍ رسمية. أحيانا، تطير من قبضتي كالطائرة الورقية نحو البحر أو إلى أعماقي فأضطر إلى أن أنقذها مرة ثانية وثالثة. تنكسر، أحيانا، عندما أتوقف عن الكلام معها، أو تنساني فأذكّرها بموسيقى البيانو ودفتري اليوميّ فتسبحُ إليّ.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة