الموضة: هي التوق الفطري لدى البشر إلى الإنتماء، وهم كلّ صباح يعبّرون عن ذلك من خلال قطع من القماش والألوان المتناسقة. وقد يكون الجينز، أي البنطال المصنوع من الدنيم والذي غالباً ما يكون لونه أزرقَ أو أسودَ، هو الخطيئة الأصلية في مسار الموضة خلال عصر الحداثة وما بعدها.

ابتكرَ رجل الأعمال ليفي شتراوس والخياط جايكوب ديفيس هذا النوع من البناطيل في 1873 كزيّ موحّد لعمّال المناجم والمصانع والمزارعين. لكن انحرافاً مبكراً، لعبت وسائل الإعلام وهوليوود دوراً أساسياُ فيه، ألهم دلالات جديدة ما كانت لتبصر النور لولا ظهور المنسوجات النيلية والقدرة على تصنيعها بكميات ضخمة. ثم عبّرت السينما عن متانة الجينز و"شخصيته" من خلال أبطال وشخصيات قاسية ظهرت في أفلام في ثلاثينيات القرن العشرين. وساهمت أفلام "الويسترن" في دفع مزيد من الناس إلى ارتداء ملابس اعتبروها تشبه لباس رعاة البقر (كاوبوي) وشخصيات الوايلد ويست (Wild West) كما لو أنهم أيضاً أبطال يتصارعون على تخوم الغرب المتوحّش. وارتدت الممثلة مارلين مونرو الجينز في فيلم "Clash by Night" في 1952 ليصبح هذا المظهر مرغوبًا أيضًا لدى النساء وذات دلالات جنسية. لم يتخطى الجينز حدود الجندر فقط، بل استُخدم في صراع الأجيال. فأصبح الجينز لزومَ شخصية الشباب المتمرد الذي لعب دوره الممثل جايمس دين في فيلم "متمرد بلا سبب" (Rebel without a Cause) في 1955. 

أما في الستينات، فحدّث ولا حرج، كان الجينز في تلك الفترة رمز "انحراف" الشباب و "التزامهم" السياسي في آن واحد. منذ تلك اللحظة في التاريخ (وهو فعلياً تاريخ أميركا)، أصبح الجينز على موعد دائم مع حركات التحرّر وجلسات "الاحتساء" الصباحية والسُكر الظاهر على تخوم القانون والمعقول واليوتوبيا. ولا تزال تُعتبَر سترات الجينز والـ Bellbottom (الواسع عند القدمين) بمثابة تذكير دائم بحركات الحقوق المدنية في الستينات بزخارفها ورُقَعِها ورموز المعادية للنظام والشرطة. 

على مدى أكثر من مئة عام، حسّن التقدّم الصناعي من نوعية المنسوجات وبالتالي علاقة الناس بالملابس. وساعد تطوّر وسائل الإعلام على أنواعها في القرن التاسع عشر في الإعلاء من قيمة الفرد ونظرته إلى نفسه. وهكذا بدأ الناس باختيار الملابس بناءً على تفضيلاتهم الشخصية بدلَ التعاطي معها كاحتياجات أساسية فقط لا غير. ويقول عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل أن جذور الموضة تعود إلى التسلسل الهرمي الاجتماعي. بمعنى آخر، تنتشر صيحات الموضة من الطبقة العليا أو النُخَب (التي تطلق صيحة للحفاظ على تميّزها وامتيازاتها) لتصل أخيراً إلى الطبقة الدنيا فتستنسخ الصيحة الجديدة بمواد وتصاميم أقل كلفة.

رفض تشارلز كينغ هذه النظرية وعرض في 1963 نظرة يحاجج من خلالها أنه يمكن لأي مجموعة أن تتبنى صيحة وتسير بها. وتتوافق هذه النظرية مع ما وصفه جورج فيلد بـ "ظاهرة تعويم المكانة" ("status-float phenomena")، التي تعتبر أن الموضة بدأت من الأسفل وتسلّقت السلم المجتمعي تدريجاً، عابرة الطبقات الاجتماعية والجندر والفئات العمرية والثقافات المختلفة. مثال على ذلك ما يسمى "موضة الشارع" (street fashion) التي تتبناها دور الأزياء والطبقات العليا. أمّا الأميرة ديانا، فكانت أول من ظهر في بنطال جينز من بين أعضاء الطبقة الأرستقراطية البريطانية. عودة الجينز في التسعينات إلى المسرح والتلفاز وفي الحياة اليومية مثال آخر على انقلاب الأدوار.

في لبنان، نوعية وطريقة لبس الجينز تمكّنك من تحديد شخصية أي فرد وطبقته الاجتماعية. كلنا نعلم هذا الرجل الذي يرتدي جينز نظيف مكوي دائماً، يفوق سعره أضعاف ثمن الجينز الذي ترتديه. ويجلس في مقاهي وسط المدينة حيث يوازي سعر فنجان القهوة الراتب اليومي الذي كنت أتقاضاه في هذه الوظيفة ويسرّع ويقصّر عمر الجينز الأزرق الذي أرتديه. 

لا أذكر أول مرة اشترى لي أبي بنطلون جينز. ولكنّي أذكر أنني لبست الجينز في سنين المراهقة وعلى الأرجح في سنوات الطفولة أيضاً. معظم ذكرياتي تظهر كما لو أنني أرى نفسي في مرآة الحمام بعد الاستحمام. عندما كنت مراهقاً، كنت أستمع إلى فرق وفنانين مثل Eminem ثم Nirvana والـ Black Keys. كانوا جميعهم يلبسون الجينز، ومع الوقت بدأت ألاحظ أنّ انجذابي إلى هؤلاء الفنانين كان بسبب تعبيرهم عن ما كنت أعيشه على المستوى الإجتماعي، وفي خضم التغيّرات الهرمونية والجسدية التي كانت تجتاحني. فبدأت أختبر قدرات التعبير لديّ بالعزف على الغيتار، الآلة التي اعتدت عليها من خلال الموسيقى التي كنت استمع إليها، وهي الروك. هكذا تحوّل الجينز، وخاصة عندما أنتظر اهتراءه، تحوّل من مجرد قطعة قماش إلى جزء من هوية والتزام ومسار حياة اعتنقته بملء إرادتي. 

هنا يتضح الفرق بين اختيار أو اعتناق مذهب ما وبين أن يُفرَض علينا. فلم يكن الجينز الممزق الذي ارتداه عضو فرقة نيرفانا كورت كوباين مانيفستو قرّر أن يعبّر عنه باللباس، بل كان نتيجة لأسلوب الحياة القاسي والمتعثر للموسيقي المتجوّل. في بداية مسيرته، لم يكن يملك الموسيقي الشاب "الكحيان" المال لشراء الملابس او تفصيلها على مزاجه. بل غالباً ما لجأ إلى متاجر الملابس المستعملة لأنه فضّل دفع ثمن زهيد على ملبوسات المظهر القديم (Vintage) وبقي يمارس نفس النهج حتى بعد نجاحه فنياً ومالياً. وكان هذا الخيار متوافقاً مع قناعته بوجوب مناهضة النزعة الاستهلاكية ورفض المعايير السائدة وعدم استخدام الملابس لإبراز الامتيازات الطبقيّة، وأخيراًَ من صقل مظهر خارجي مغاير ومتنوع المصادر (بانك وفينتاج) يتناسب مع هويته التي صنعها بنفسه. لكن الجينز، الذي تم تسليعه في فترات متباعدة، كان على موعد جديد مع التسليع، ليرتفع سعره مجدداً ويباع كجينز جديد نظيف ومكوي، يأتي ممزقاً مباشرة من المصنع. أما أنا، فلا زلت أرتدي الجينز، فإذا سُرق شيءٌ منك، لا يمكن أن تستسلم وتتخلّى عنه.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button