لقد فقدت الاتصال بالواقع.. ورحلت مرغماً من أجل الحفاظ على هذا الشر الذي لا مفرّ منه. لقد وُلدت تائهًا ولا يسعدني أبداً أن أعثر على نفسي. كنت عالقاً في منطقة عَين الرّمانة في بيروت حيث الحياة لا تطاق، دفعتني الأحداث إلى الهرب مُسرِعاً من منزلي ذات صباح، كما لو أن قوى الطبيعة قذفتني خارجاً.
عندما كنت صغيراً، شيءٌ ما كان يدفعني لكي أكون في مكان آخر. ولكن الكبار سارعوا إلى طمأنتي بأن النضجَ سوف يعالج هذه الحكّة. أخشى أن هذا المرض لا علاج له. أخشى أنه إذا بقيت هنا فسوف أمسي باطوناً على أرصفة هذه البلاد القذرة. كنت أسمع صراخ الأمهات من الشرفات وأنا أركض في الشارع. كُنَّ كالطبيعة "الأم" تتوسّل ولدها للرحيل.
الشمس مشرقة والبنادق تزقزق مثل حمامات حِداد في يوم صيفي حار. ما زلت أذكر وجهكِ وأنت تخلعين فستانك وتلقينه على الأرض. ذكريات أخرى بدأت تقصف رأسي بينما كنت أركض في الشارع، تاركاً حياتي خلفي، ومن دون أي ضمانة لمستقبلٍ في هذا العالم المُقفَر. اكتشفت بعد سنوات من المعاناة، أننا لا نذهب في رحلة، لكن الرحلة هي التي تأخذنا. فَرَكضت حتى رأيت صديقي تشارلي يحاول تشغيل محرّك سيارته، وكانت بعض حقائب السفر جاثمة في المقعد الخلفي، فقفزت إلى داخل السيارة من دون التفوه بأي كلمة. نظر إليّ ودمعة وحيدة تسقط من عينه وقال: "هيا بنا".
* جون ستاينبيك، كاتب أميركي اشتهر بقصصه حول الحرب العالمية الثانية. حاز على جائزة بوليتزر عام 1940 عن روايته "عناقيد الغضب".
postphilosophy.com
instagram.com/post.philosophy
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة