لا يمكنني أن أنسى قبلتي الأولى. ليس لقيمتها العاطفيّةِ أو روعتِها أو لشأنٍ يتعّلقُ بالآخرِ عمومًا، بل لأنَّ الفمَ هو أوّلُ مدخلٍ للشّهوةِ، ولأنَّ تلكَ القبلةَ ظَلَّتْ تحرقني لأعوامٍ بعدها، بل أنّها اندلقَتْ منذُ اللّحظةِ الأولى إلى الفمِ والأحشاءِ مثلَ ماءِ النّارِ فألهبتني، وأذابَتْ جليدَ الطّفولةِ والبراءةِ وأنهضَتْ حيوانًا جميلًا ومحمومًا ورطبًا لم أكن أعلمُ قبلًا بوجودِه في الدّاخل.
راقَبْتُ بعَدها كلَّ تلكَ الأشياءَ الّتي بدأتْ تطفحُ فوقَ سطحِ الجسدِ الرّاكد. أشياءٌ ممتلئةٌ ومحتقنةٌ بسوائلَ تتجاوزُ درجةَ الغليانِ، أعضاءٌ خَفِيّةٌ تتبرعمُ برّاقةٌ من جلديَ الشّاحبِ القديمِ وتكشطُ بلادَتَه وانطفائَه متحفّزةً لنهشِ الضّوء.
أدركْتُ حينها بأنّه ثمّةَ شيءٌ قدْ بدأ، انطلاقًا من تلكَ القبلة، ولن ينتهي أبدًا، تلكَ القبلةُ الخائفةُ المرتجفةُ، المدروسةُ أكثرَ من عمليّةِ اغتيالٍ، والّتي قادتني إلى أكثرِ الأماكنِ جسارةً، إلى جسدي أنا، إلى أنفاقِه المظلمةِ مثلَ دغلٍ لا نهائيٍّ، إلى مغامرةٍ خليعةٍ في الدّاخلِ العميقِ، نحوَ العتمةِ المتورّمةِ بالدّمِ اللّاهث. لقد أيقظتني كلّيًا، تلكَ القبلةُ الجامحةُ، الّتي ظلّتْ تنتشرُ في حلقي لأيّامٍ مثلَ شهْقة.
جرّتني الشّهوةُ بعدها إلى أماكنَ بعيدةٍ لم أعرفْها من قبل. عصرَتني حتّى أصبْت بالدّوارِ وتفصَّدَتْ من مساماتي آخر سمومُ البراءةِ، ثمَّ ألقتني في حقولٍ شاسعةٍ من الخصوبةِ والدّوخانِ والخلاعةِ، حقولٌ زَرَعْتُ فيها رغباتٍ صلبةً وحصدتُها بياضًا مائعًا وتمرّغْتُ فيها عاريةً تمامًا مثلَ ثمرةٍ تنضج.
اتّحدْتُ معَ جسدي بعدَ تلكَ التّجربةِ الّتي أشعلَتْ تحتَ جلدي فتيلًا ما زالَ يتّقدُ حتّى الآن، امتلكْتُ فجأةً ذخيرةً هائلةً من الجرأةِ، مشيئةً لم أعهدها من قَبْلُ، صارَ جسدي في قبضتي، قبضتي في يدي، يدي في جسدي، وجسدي في قبضتي مجدّدًا، وصارَ هذا الجسدُ ميدانًا مفتوحًا من القدرةِ التّامّة.
لقد عرفتُ مكامنَ الجرأةِ الجسديّةِ في عمرٍ مبكّرٍ، وتركتُها لأعوامٍ تقطّرُ من أعضائي الصّغيرةِ ساخنةً ولاذعةً، لقد طوّعتُ الجسدَ لرغباتي بسهولةٍ، جعلتُه خادمًا لي، جررتُه معي أينما أخذتني تلكَ الشّهواتُ الهلاميّةُ الّتي لها رائحةُ الحموضةِ والاحتراقِ، ثمَّ ألقيتُ به بلا رحمةٍ في الحفرِ السّحيقةِ والمظلمةِ لجوع الآخر.
كنتُ حيوانةً عاريةً وصغيرةً، بخلاعةٍ هائلةٍ تتفصّدُ مع حبّاتِ العرقِ الّتي تكسِبُ جلدي مسحةً بلّوريّةً مغرية. كانت تفوحُ منّي رائحةُ الرّغبةِ طوالَ الوقتِ، رائحةُ التّهورِ، رائحةُ التّحفُّزِ، رائحةُ الخوفِ الفاجرِ، رائحةُ الحافّةِ، نعم، لقد كانَ ذلكَ الجسدُ المندفعُ يضعني على الحافّةِ طوال الوقتِ، وكنتُ أحبُّ ذلك، كنتُ أحبُّ حالةَ الاستعدادِ الدّائمِ للسّقوطِ في المجهولِ الرّطبِ، كان ذلك يغريني، ويضاعفُ تورّمَ أعضائي ويجعلني أرغبُ في المزيد.
قدّمتُ جسديَ للآخر مثلَ قربانٍ، قدّمتُه كاملًا، نكايةً بتلكَ العينِ اليقظةِ المغروسةِ في عمقِ الجسدِ، عينُ الأمِّ الّتي ترصدُ تحوّلاتِ جسدي خلفَ الأقمشةِ ووجهي الّذي بدأ يتوهّجُ ويتفتّحُ ويلهثُ فيه الدّمُ الهائجُ فيما يشبهُ الماراثونَ الشّهوانيّ.
وعلى الرّغمِ من هذا كلّهِ، على الرّغمِ من الخوفِ الّذي كانَ يجعِّدُ النّشوةَ ويمصُّها ويقضي عليها في أحيانٍ كثيرةٍ وعلى الرّغم من محاربتي الدّائمةِ له وحراسةِ جسدي اليافعِ من تغضّناتِ القلقِ والكبتِ، لم أكن أحبّذُ أن أحمِّلَ عمليّةَ الجنسِ أكثرَ من أهميّتِها الفسيولوجيّةِ البحتةِ، لم أكن أصوّرُ نفسي كمناضلةٍ، أو جنديّةٍ متفانيةٍ تقاتلُ على جبهاتِ الجسدِ، بل على العكسِ، كنتُ أشبعُ جوعي بكلِّ تلقائيّةٍ وسريّةٍ، كلَّ يومٍ، أنهشُ علانيةً خبزَ الصّباحِ، وأشربُ سرًّا من حليبِ الجسدِ الذي لطالما شعرتُ بأنّه يغسلني بالبياضِ من الداخلِ، إذ لم أكن أبحثُ عن الفهمِ، بل المتعةِ، المتعة فحسب.
ولكنَّ المثيرَ للاهتمامِ أنّه بعدَ مرورِ كلِّ هذا الوقتِ على قبلتي الملحميّةِ الأولى، والّتي تبعتها قوافلُ من القبلاتِ والرّغباتِ المحمومةِ، أدركْتُ بأنَّ كلَّ ما كنتُ أقومُ بهِ هو نوعٌ من المقاومةِ اللّاواعيةِ، شئتُ أم أبيتُ، لقد كانت تلك المتعةُ الحيوانيّةُ في جوهرها فعلًا ثوريًّا ضدَّ نظامٍ بأكملِه، شيءٌ يتجاوزُ ضرورةَ تلبيةِ نداءاتِ الحاجةِ، لأنّني، وبشكلٍ ما، كنتُ أعرفُ بأنَّ الطريقَ الوحيدَ للحريّةِ والانعتاقِ والمجدِ يبدأ من الجسدِ وحدَه، لأنَّ الحريّةَ ليست كلمةً، بل هي دمٌ ولحمٌ وأحشاءٌ، الحريّةُ هي كلُّ تلكَ القبلِ الّتي كانت تذوبُ في فمي بطعمِ السّجائرِ أو القلقِ أو الحلوى، ولذا فقد تحتّمَ عليَّ أن أخلعَ أسوارَ حظيرةِ الجسدِ، أن أقتحمِها وأشطُف كلَّ الخوفِ بطوفانٍ من البللِ واللّزوجةِ، الخوفُ، ذلكَ العدوُّ الألدُّ، الجاسوسُ اللّامرئيُّ الّذي دسَّتْه العائلةُ في الّداخل.
الصورة: من فيلم "ذا فيرجن سويسايدز" (1999)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة