قبل 43 سنةٍ تمامًا على "يناير" مصرَ 2011، بدأ "ربيعُ براغ" مع محاولةِ الحزبِ الشّيوعيِّ التّشيكيِّ طرحَ إصلاحاتٍ لنظامِ حُكمِه. وفي ليلِ 21 آبَ، أقدمَ 650 ألفَ جنديٍّ من دولِ حلفِ وارسو، وعلى رأسِها الاتّحادُ السّوفياتيُّ، على غزوِ تشيكوسلوفاكيا لقمعِ محاولةِ الاصلاح.
واجهَ الشّعبُ المغزوُّ غزاتَه بورودٍ واحتجاجاتٍ ومقاومةٍ مدنيّةٍ وبإقدامِ عددٍ من شبابِه على حرقِ أنفسِهم، ومن بينِهم الشّابُّ الجامعيُّ يان پالاش، بوعزيزي التّشيكيّين. وانتهى الأمرُ بعودةِ البلادِ إلى المنظومةِ الاشتراكيّةِ، ولم تكن تركتها أساسًا. ويا دار ما دخلك شرّ!
لم يعد مفيدًا الخوض في الأسباب والنوايا آنذاك، خصوصًا بعدما تغيرت جغرافيا دول تلك المنظومة المجيدة.
حدثَ ذلكَ الغزوُ، أو حملةُ ترتيبِ البيتِ، على وقعِ نشيدِ الأمميّةِ الّذي بلغَت جهارًا أصواتُ مُنشديه أعتاها في أداءِ كورسِ الجيشِ السّوفياتيّ. لكأنَّ رأسَ المنظومةِ يقولُ إنَّه أقوى داعمٍ في الكوكبِ الأزرقِ للأمميّةِ الحمراءَ، شرطَ حفاظِه على اشتراكيّتِه هو الماركسيّةِ اللّينينيّةِ (السّتالينيّة).
والنّشيدُ ألّفه الشّاعرُ الثّوريِّ الفرنسي أوجين بوتييه سنةَ 1871، ضدَّ القمعِ الّذي تعرّضَت له كومونةُ باريسَ وتمجيدّا للأمميّةِ العمّاليّة. ثمّ لحّنَه سنة 1888 المؤلّفُ الموسيقيُّ والعاملُ الاشتراكيُّ البلجيكيُّ بيار دوغيتيه.
تُرجمَ الى لغاتٍ كثيرة. ورسّخَ رمزًا للصّراعِ الطّبقيِّ واعتمدَه الاشتراكيّونَ والأناركيّونَ والشّيوعيّونَ والنّقابيّونَ اليساريّونَ، ينشدونَه في المناسباتِ والمظاهرات.
تقولُ لازمتُه بالعربيّةِ: "بجموعٍ قويّة / هُبّوا لاحَ الظّفر / غدُ الأمميّة / يوحّدُ البشر". وعندما كنّا نصلُ الى تلكَ اللّازمةِ كانت تصيبُنا نشوةٌ تخدّرُ عقولَنا الحالمةَ بينما تصوّرُ لنا رومانسيّتَنا الثّوريّةّ الكاپيتاليزم على قابِ قوسينِ من الزّوال...
زالت المنظومةُ الاشتراكيّةُ وعلى رأسِها الاتّحادُ السّوفياتيُّ، وبقيَ نشيدُ الأمميّةِ ضمنَ ريپيرتوارٍ غنائيٍّ يؤدّيه كورسُ للجيشِ الرّوسيِّ بكاملِ انضباطِه وحسنِ أدائه يمكنُ مشاهدته على يوتيوبَ معَ بقيّةِ نسخِه المترجمة… بينما تعبّرُ تلكَ النّشوةُ الجامحةُ أمامَ مرآنا من بعيدٍ تُذكّرُنا بحماسٍ ذوى وحلمٍ أفل.
وفي ناحيتِنا من العالمِ، كنّا نعتبرُ أنفسنا محظوظينَ بالأقلامِ الّتي خطَّت الأناشيدَ والأغاني الثّوريّةَ وبملحّنيها ومنشديها. فبالإضافةِ إلى الأمميّةِ و"بلادي بلادي" و"عالميدان يا فدائي" و"زهرة المدائن" وأعمالُ الفنّانينَ الملتزمينَ، برزَت في 1969 أغنيةُ "أصبح عندي الآن بندقيّة" الّتي غنّتها أمُّ كلثومَ (وثمّةَ دويتو مع ملحنِّها عبدِ الوهّاب). وقد كتبَها نزار قبّاني، تكفيرًا عن القصيدةِ الّتي كتبَها في 1967 إثرَ "النّكسةِ" وقال فيها "عفوكِ فيروزُ ومعذرةً أجراسُ العودةِ لن تُقرع".
وممّا تقولُه القصيدةُ بصوتِ السّت: "قولوا لمن يسألُ عن قضيّتي / بارودتي صارت هي القضيّة". وتزامنَت الأغنيةُ مع تنفيذِ المناضلةِ الفلسطينيّةِ ليلى خالد أولى عمليّاتِها الفدائيّةِ، ولعلَّها كانت تدندنُ معَ السّتّ "أصبحتُ في قائمةِ الثّوار / أفترشُ الأشواكَ والغبار / وألبسُ المنيّة". أو لعلَّ نزارَ استلهمَ البيتَ من فعلها.
هذه أيضًا، باتت تشكّلُ جزءًا من ريپيرتواراتٍ غنائيّةٍ أفرادًا وكورالَ، بعدَ الخيبةِ الكبيرةِ الّتي أصابَنا فيها البيتُ "من يومِ أن حملتُ بندقيّتي / صارت فلسطينُ على أمتار".
… إلّا إذا… إلّا إذا كانَ أمدُ تحقيقِ الثّوراتِ بعيدًا ودربُها متريّثًا ومتأنٍّ… فتخيّلوا تخيّلوا تخيّلوا طريقًا واحدًا إلى فلسطين.
نعم… يحقُّ لنا، بعدَ كلِّ اللّكماتِ الّتي أكلناها على أعينِنا حتّى تورّمَت، من أن نتساءلَ، كلُّ على طريقتِه، عن أسبابِ السّقوطِ والفشلِ وتوالي الخيبات.
الصورة: أطفال يردّدون نشيد الأممية في باريس بمناسبة الأوّل من أيّار (1934)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة