عندما وصل زياد أبو عبسي إلى الحدود مع السماء، أوقفه حرّاس مدخل العبور إليها وشكّوا في أمره، هم الذين لا تفوتهم الشاردة والواردة: بدين. جسده مطواع. صوته جهوري. حضوره قوي. قارئ نهم. أكول نهم. لا يخاف التحديق في العيون. يناصر الحق. يحسم أمره. محب!!! وكّرت سبحة الشكوك.
تهامسوا في ما بينهم، فيما زياد يتفرّج على المكان غير آبه بهم. فتهيّأ له أنه كان احتكّ بتصوّر عن هذا المكان لمّا كان على الأرض، في معهد للاهوت ببيروت. "دراسة اللاهوت تساعدك على التعمّق بالفلسفة"، أسرّ ذات مرّة لتلميذه وصديقة فيما بعد الممثل طارق تميم.
وبعد استطلاع المكان ببصره، تنهّد وقال: "شِتْ، شو هيدا؟.. هون غير شي، تشعر، يا رجل، أنك تأكل مع شكسبير عند مطعم اسطنبولي بالحمرا". صوته نبّه الحرّاس إليه، فطلب منه أحدهم أن يمتطي موتسيك كاوازاكي أكس نايْن هانْدرد، ويتوجّه بها إلى قاعة محكمة الفصل.
ببراعة فائقة، قادها زياد، إذ بلغ الـ 120 كلم/ساعة بثانية واحدة. وقبّها بسهولة على الدولاب الخلفي، حتى وصل إلى باب الصرح الكبير، حيث حطّ الدولاب الأمامي وتجمّد الموتسيك.
هناك، استقبله الحرّاس أنفسهم الذين أوقفوه عند المدخل الأول: في السماء يحدث دائماً ما ليس في حسبان البشر. لكن زياد لم يستغرب تكرار شخصيات الحرّاس مرة ثانية، هو الذي مرّت على رأسه شخصيات كثيرة تسللت إلى الوجود من رؤوس أقلام كبار الكتّاب وتكرّرت كثيراً مع مرّ الزمن.
اقتاده الحرّاس فرحين إلى الداخل، فنادراً ما يأتي إليهم إنسان من هذا العيار. ولكن، عند عتبة القاعة الكبيرة الخالية إلّا من شخص واحد، تفكّك زياد أبو عبسي وتحوّل حشداً، كأنه مر في منشور يحلل الضوء إلى طيف من الألوان.
إلاّ أن زياد تفكّك إلى أشخاص. فأخذت القاعة تمتلئ بهم كلما خطى خطوةً نحو قوس المحكمة. في الحقيقة، كانوا ينسلخون عن بدنه الضخم. أولهم مستر هارولد البريطاني ("بالنسبة لبكر شو؟") ثم إدوار المسيحي المتوجّس من كثرة المحمودات ("فيلم أميركي طويل" لزياد رحباني). "عويس آغا" (لفيصل فرحات). "الخوري" ("جبران والقاعدة" ليعقوب الشدراوي).
وفي الأثناء، ظهر جوزيف صقر (ممثلاً زياد الرحباني) ويعقوب الشدراوي من شرفة عالية، يرحّبان بالضيف الجديد. وأما فيصل الذي لا يزال عالقاً على الأرض، يقتات من بيع الكتب متجوّلاً في أرجاء المدينة، فانتدب جلال خوري معلّمه ليحتل مكاناً على الشرفة ويلوّح لزياد.
ثم ظهر في القاعة أبو الزلُف وتبعه الدلعونا وغزيّل أبو الهيبة والميجانا وأبوها بو الميج والروزانا ("شي فاشل"). وعلى الفور، عانقت الدلعونا أبو الزلف الذي كان يصطحبها في نزهات على الموتسيك السريع. وقالت له: "اشتقتلك كتير زلّوفة، زمان والله." وقبل أن يجيبها زياد (عفواً، أبو الزلف)، تقافزت شَلْعة من الماعز إلى قلب المشهد، فصرخ جوزيف من الشرفة: "أهلا أهلا أبو عبْساااايْ"، وصفّق يعقوب وجلال وهلّلا.
تلك الماعز، التي كان يدحشها نور، شخصية المخرج في "شي فاشل"، في كل مسرحياته، هي العائق أمام التقدّم والتطوّر في لبنان، على رأي أبو الزلف. وتلا الشَلْعة دخول رجل مقنّع يلقَّب بـ "الغادر"، واسمه الحقيقي أبو عبسة ("بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و"لولا فسحة الأمل")، مفتّشاً على كل من يرتكب شواذاً بحق وطنه.
ومن الجناح الأيمن للقاعة، دخل بجلال ريكاردوس قلب الأسد ("المفتاح" لربيع مروّة)، بكامل عتاد القتال واعداً نفسه وجيشه ودول قارّته بالاستيلاء على القدس.
فجأة، انضمّ إلى البقية على الشرفة، ويليام شكسبير، وتوجّه إلى زياد قائلاً: "ما الحياة سوى حكاية يرويها مغفّل، ملؤها صخبٌ وغضب، بلا معنى"، بينما هرع إلى القاعة شخصياته "زوجات ويندسور الفرحات" و"ريتشادر الثالث" و"ماكبث"، وزياد يواصل تقدّمه نحو قوس المحكمة حيث القاضي.
ثم دلف إلى الشرفة أيضاً دورنمات ومايرهولد وستانيسلافسكي وإلى القاعة كل الشخصيات التي لعبها زياد في الجامعات الأميركية والأفلام والمسلسلات. وكان آخرها شخصية أبو عبسي ("بيروت واو" لفادي ناصرالدين) الشاعر والمثقف العبثي، نزيل المصحّ النفسي والساخر من المشهد السياسي العام.
عند مثوله أمام القاضي ذي الهيبة والوقار، كان زياد قد فقد كثيراً من حجمه المعتاد وبات نحيلاً لا يُعرف إلاّ من عينيه الواسعتين. أمسى عارياً من كل ما لملمه من قراءاته وأبحاثه ومن شهادات وشخصيات ومنح دراسية، إحداها من مؤسسة "فولبرايت"، ومما اكتسبه من علوم ومعارف ونمّاه من ثقافة وكوّنه من أفكار. وأضحى مفتقداً أصحابه وأصدقاءه وتلاميذه الذين أحبّوه لأنه يسّر لهم التعلّم من دون أن يتأستذ عليهم، على قول الممثل بديع أبو شقرا في رثائه.
فقال زياد للقاضي: "شِتْ، شو هيدا مانْ! هيدا مش أنا. رجّعني أنا". لم يجبه القاضي الحكيم لأنه يعرف كمّ كبير قلبه ونبيل شخصه، وأنه لا يقصد الإساءة، وذلك وسط همهمات معترضة تشكو هذا التصرّف، بدرت عن نزلاء السماء الذين تجمهروا لملاقاة القادم الجديد.
ما جعل زياد يتخلّى عن العمل في مجال المحاسبة (أول شهادة حازها)، ويختار الفنون والآداب مسلكاً لحياته القصيرة، هو المسرح العميق الذي يعتني بالروح البشرية ويعوّل على جسد الممثل للتعبير عن بواطنها الدفينة. فالمسرح العميق، على عكس الدولة العميقة التي تسعى إلى إزهاق تلك الروح، يسعى إلى تحريرها.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة