"في السياسة لا شيء أكثر أهمية من الظهور بمظهر المُتديّن"

في 1486، استطاع برناردو مكيافيلي تأمين وظيفة لإبنه نيكولو في مطبعة سوبياكو. تأسست المطبعة في 1464 على يد الراهبين أرنولد بانارتس وكونراد سوينهايم في دير سانتا سكولاستيكا بمدينة سوبياكو الإيطالية. عمل سوينهايم مع يوهانس غوتنبرغ، مخترع آلة الطباعة الميكانيكية بالحرف المتحرّك. مستفيدة من الإختراع الحديث، عُرِفَت مطبعة سوبياكو كأول مطبعة تأسست في إيطاليا.

كان مكيافيلي يستيقظ يومياً على صوت المَحابر يطرق أذُنَيه. ثم كان يتوجّه إلى المرحاض في محاولة يائسة لإزالة الحبر الأسود عن يديه، ولكن دون جدوى. أنزَل مريوله عن حبل الغسيل وسار باتجاه آلة الطباعة. لم يكن مكيافيلي متحمسًا لوظيفته. تتلخّص الوظيفة بالعمل اليدوي وحدّ أدنى من الاتصال البشري. تشغيل آلة الطباعة يتطلّب عاملَين: الأول عليه أن يحافظ على يديه نظيفتين، فيحمل الورق ويقوم بسحب رافعة الطبع. أما الثاني، فيمسك المحابر ويغمسها في معجون أسود سميك قبل أن يضرب بها الكلمات لتولَد على الورق. العملية نفسها تتكرّر طوال اليوم، ولكن مكيافيلي كان يبحث عن وسيلة لتحفيز عقله. فهو أمضى يومه كلّه، صفحة بيضاء تلو الأخرى، مستخدماً هذه الأدوات البدائية لطباعة كُتُب ستقود الأمم والجيوش، سارقاً نظرات سريعة من عدد لا يحصى من الجمل والعبارات التي لفتت انتباهه.

ركّزت المطبعة بشكل أساسي على طباعة الكتاب المقدس. وبالتالي، استقرّت بعض آيات الكتاب المقدس في رأس مكيافيلي، فاعتادَ على تدوينها بعد عودته إلى المنزل. طبعاً لم يكن مسموحاً له التوقف عن العمل من أجل تدوين الملاحظات، فهذا يعتبر إضاعة للوقت خلال الدوام. ولذلك، تحجّج بضرورة قضاء حاجته في المرحاض لتدوينها، فهو أدرك أنه سينسى بعض هذه الأبيات إذا انتظر حتى يعود إلى المنزل. لسوء الحظ، لفتت نصوص عديدة انتباه مكيافيلي خلال فترة الدوام الطويلة، فكان يكرر رحلاته إلى الحمام مع دفتر ملاحظاته. لاحظ كونراد سوينهايم (الراهب الذي أسّس المطبعة) أن مكيافيلي كان يقضي الكثير من الوقت في الحمّام، فوجّه له إنذاراً وحذّره من إضاعة الوقت.

وبعد ساعتين فقط على تلقّيه الإنذار، ذهب مكيافيلي مرّة أخرى إلى المرحاض لتدوين الآيات التالية:

"عَرَفْتُ يَا رَبُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقُهُ. لَيْسَ لإِنْسَانٍ يَمْشِي أَنْ يَهْدِيَ خَطَوَاتِهِ." (إرميا 10:23)

"فِي قَلْبِ الإِنْسَانِ أَفْكَارٌ كَثِيرَةٌ، لكِنْ مَشُورَةُ الرَّبِّ هِيَ تَثْبُتُ." (أمثال 19:21 )

"لأَنَّ لِلرَّبِّ الْمُلْكَ، وَهُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ." (مز 22:28).

يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَناً، بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ. (غل 4:17)

"لأَنِّي عَرَفْتُ الأَفْكَارَ الَّتِي أَنَا مُفْتَكِرٌ بِهَا عَنْكُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ، أَفْكَارَ سَلاَمٍ لاَ شَرّ، لأُعْطِيَكُمْ آخِرَةً وَرَجَاءً." (إرميا 29: 11)

"إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُحِبُّ الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا! مَارَانْ أَثَا." (1 كو 16: 22)

"مَنْ يُؤْمِنْ بِالاِبْنِ، فَلَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. وَمَنْ يَرْفُضْ أَنْ يُؤْمِنَ بِالاِبْنِ، فَلَنْ يَرَى الْحَيَاةَ، بَلْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ." (يوحنا 3:36)

"الرَّبُّ رَاعِيَّ فَلَسْتُ أَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ." (مز 23:1.6)

وبينما كان مكيافيلي يدوّن الآية الأخيرة، سمع قبضة يد تطرق لحن سمفونية بيتهوفن الخامسة على الباب {نعم عزيزي القارئ، أنا أعلَم أن بيتهوفن لم يولد بعد. لا تكن متحذلقاً أرجوك}. عندما فتح مكيافيلي الباب، رأى الراهب واقفًا بثبات، وبدا الراهب في عيون مكيافيلي أطول قامة. في تلك اللحظة شعر مكيافيلي بغضب الله ينصَبّ عليه. صرخ الراهب: ألم أحذرك من إضاعة الوقت خلال الدوام!؟ وصَفَعَ مكيافيلي على خده الأيمن، ولكنه لم يدير خدّه الأيسر، بل أدار ظهره وعاد إلى المنزل.

بعد أن استقال من وظيفته وتلقى توبيخًا آخر من والده، أمضى مكيافيلي حوالي أسبوع في مراجعة الملاحظات التي جمعها من الكتاب المقدس. شيئًا فشيئًا، توصّل إلى استنتاج مفاده أنه قد يكون للدين علاقة بمسألة التحكّم في الجماهير والعمل وأفعال المرء، وأنه في السياسة لا شيء أكثر أهمية من الظهور بمظهر المُتديّن.

في السنوات التالية، تحوّلت إهتمامات مكيافيلي أكثر فأكثر نحو البيتزا والسياسة والسُّلطة. درس تعاليم الكتاب المقدس وراقب رجال الدين عن كثب. أدرَكَ أهميّة إيجاد التوازن المثالي بين العجين والزيت للتأكد من عدم احتراق عجينة البيتزا. "دع زيت المسحة المقدس يكون المنقذ للبيتزا السياسية." وعَظَ مكيافيلي. بدأ في تركيب الوصفة الأمثل للحاكم الأعلى، مشدّداً أن على الحاكم، أو كما أشار إليه أولاً بإسم "الخبّاز" وفيما بعد بإسم "الأمير"، أن ينبذ الدين في حياته الشخصية لكي يتمكن أن يحكُمَ من دون الغِطاء الذي يُعمي رعاياه... وهكذا، لا تحترق عجينة البيتزا.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button