" ليتني كنتُ
حينما كانت أمِّي
طفلةً حزينةً
تحتاجُ إلى صديقةٍ
.في مثلِ حزنِها
ليتني كنتُ هناك
أقاسمُها وحدتَها
يتمَها
و ليتني كنتُ أكبرَ منها قليلاً
.لأكونَ أمَّها
"
سوزان عليوان

 ***

ماتت جدّتي أمُّ أبي. كنتُ هناك في البعيد. البعيد المكان أو نقيضه. كنت لم أوجد، أو وُجدتُ لكنّني نسيتُ، بل أحيانًا أتذكّر. ماتت جدّتي قبل أن تلدَني أمّي. ماتت قبل أن يلدَني أبي. أبي فقد أمّه قبل أن يلدَني. ماتت جدّتي. ماتت على طريق قرى جبل عامل. ماتت جرّاء صاروخٍ اسرائيليٍّ دخل رحمها وفجّره. أظنّني شعرت بالانفجار الكبير ورأيته أحمرَ يتطاير صاخبًا وعنيدًا. رخمانينوف، كونشيرتو رقم اثنين، الثانية السابع والعشرين. عيد الأمّ، 21 آذار 1991. كنتُ هناك. لم يعرفوني. لكنّني كنتُ هناك. رأَتني جدّتي بعد موتها، عرفَتني بعد موتها وأنا رأيتُها قبلَه وبعدَه. ماتت جدّتي يوم عيد الأمّهات. في عيد الأمّهات نحتفل بالولادة والموت أيضًا. في عيد الأمّهات تتوارى عبّاد الشمس عن الشمس. لها مسارات أخرى. ماتت جدّتي أم أبي، مات جزء منّي قبل أن أكون على هذه الأرض.

حملتني جدّتي أمُّ أمّي. قرأت القرآن فوق رأسي. وُلِدت فحمَلَتني جدّتي أمُّ أمّي وهمسَت في أذني ألله أكبر. صرخَت في رأسي ألله أكبر. رخمانينوف كونشيرتو رقم اثنين، الدقيقة الأولى، الثانية السابع والأربعين. وضَعَت يدها على رأسي فعرفتُها. عرفتُ أنّها أمُّ أمّي. أنا أعرف أمّي لذلك أعرف جدّتي. أعرف الله يا جدّتي. قلت لها. لم تسمعني.

جدّتي أمُّ أمّي تحدّثني، أحملها الآن، مضى الماضي البعيد حين حملتني. تُخبرني أنّ أخت جدّي لأمّي، أي أختَ زوجِها، وَلدَت طفلًا من دون أن تعلم. كانت حاملًا به، كانت تعلم أنّها حامل بطفل، لكنّها لم تعلم أنّه نزل منها. رخمانينوف، كونشيرتو رقم اثنين، الدقيقة الثانية، الثانية الخامس والعشرين. نزل منها، أخرَجَ نفسه بنفسه، وقال لها إنّه موجود. نزلَ الطّفل من رحمها على الأرض من دون أن تدري. زحط من جسمها. خرج منها كما يخرج الهواء من اللاشيء. فكان. خالتي أخت أمّي، أخبرتني أنّها عندما أنجبت أولادها الثلاثة، أحسّت أنّ الولادة غلّفت جسمها. وكان الشرخ قد أطال مسامَّ جلدها بأكمله. رخمانينوف كونشيرتو رقم اثنين، الدقيقة السادسة. شعَرَت بكلّ مسامِّها أنّ جلدها ينشرخ. موت فولادة تشبه خروج العاصفة من خرم إبرة.

أخبروني أنّي لست أمّ أمّي. أحسست أنّي ناقصة نفسًا. كأنّني لم أوجد. رخمانينوف، كونشيرتو رقم اثنين، الدقيقة السابعة، الثانية الواحدة والخمسين. أنا لست أمّ أمّي. من أمّ أمّي؟ جدّتي؟ ضحكوا، وقالوا لي كيف لك أن تنجبي وتكوني أمًّا وما زلتِ طفلة. اعتقدت أنّنا أمّهات بعضنا، إنّنا جميعًا أمّهات بعضنا وأنّنا شربنا كلّنا حليب الأمومة الأوّل. نعرفه كلّنا من دون أن نعرفه. حَيَوات الموج الواحد، الأمّ الأولى والأمّ الأخيرة، الأمّ الأولى الأخيرة. نغرق في البياض والعمق ونطوف كهواء نظيفٍ نظيفٍ... رخمانينوف، كونشيرتو رقم اثنين، الدقيقة الثامنة، الثانية الخامسة والأربعين... هل عرفتني أمّي حين وُلدت؟ هل عرفتُها حين جئت؟ هل حزنتُ لأنّي خرجتُ منها؟

أخبروني أنّني سأصبح أمًّا يومًا ما. أحسست أنّني ناقصة نفسًا مرة أخرى. حين تأتي دورتي الشهريّة، يشدّني الألمُ وأبكي من حدّته. حين أتألّم وأبكي أتخيّل أنّني أنجب جنينًا وأضحك. أضحك وأقارعُ وجعي. يطفو الوجع كحروف والحروف توجع والحروف لغة واللغة خطيرة. اللغة. علّمتني أنّ أمّي ليست إبنتي، وأنّ جدّتي هي أمّ أمّي. اللغة. أخذت منّي الصورة. الصورة: أنا وأمّي وأمّ أمّي وأمّ أبي، نفناف بياض جلدهنَّ، أمام مرآة في قعر البحر، لا عمر لدينا، لا صورة لدينا أمام المرآة إلّا موجنا الواحد. سمك كثيف يلفنا، سمك طائر وسمك حائر وسمك يحاول أن يفهم كيف لأمّهاتٍ وأمّهاتِ أمّهاتٍ أن يكنّ من العمر نفسه. السمك أيضًا شوّهته اللغة. رخمانينوف، كونشيرتو رقم اثنين، الدقيقة التاسعة، الثانية الثلاثين. يدور السمك ويدور ويكون الموج. هل أنجبتني أمّي كي لا تفقد أمّها؟ يكون الموج ويكبر ويبتلعنا ونبتلعه ويصير الماء حليبًا أبيضَ. نسبح في الحليب الّذي لا اسم له وتجيء اللغة فتذوب وتندحرُ وتأتي الموسيقى.

الصورة: رسم لـ هيف كهرمان - فنانة عراقية

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button