ها قد مضَتْ سنين طويلة، مضى الكثير ولم يبقَ سوى القليل. نعم، هكذا أقول لتعزية نفسي رافعاً سروال النوم إلى أعلى بطني، منتظراً النهاية. غِبْتُ كثيراً عنّي، اشتقتُ إليّ.
كلّ ما أتفوّه به هو ترهات. أنا لا أذكر شيئاً، ولا أفتقدني وأسعى دائماً إلى التبوّل على ذاكرتنا الجماعيّة للتخفيف مِن حدّة لَسْعَة أخطائنا الأصليّة.
أخَذَني الكثير لإدراك أن الحنين ما هو إلاّ مجرّد استلقاء على حريرٍ وهميٍّ، لذا، حاولتُ مرارًا إطلاق النار على رجليّ المعلّقتين في الهواء. حتّى ذهب بي الأمر إلى تمزيق رواية "حرير" ورقةً ورقة، والتي يتناول بها الروائي والمخرج الإيطالي "أليساندرو باريكو"، بمضمونٍ عميقٍ وقدرةٍ على توسيع الخيال، طريق الحرير التاريخيّ الممتدّ من شمال الصين وصولاً إلى البندقيّة، والذي أتى بازدهار الثقافات والتجارات، وفي منقلبه الآخر شَهِد الكثير من الحروب الدامية. والأشدّ قهراً بكلمات الطليانيّ، التالي: "ألمٌ غريب أن تموت مِن الحنين لشيء لم تعشـه أبداً".
لست حنوناً ولا مَن يحزنون. لن أدَعَه يلمسني، الحنين وأوجاعه وأوهامه. القلب دائماً على الرّماد. الشوق فقط إلى طريق العودة إلى المنزل في الباص المدرسيّ، المكان الوحيد الذي تمكّنت فيه أن أشرد لساعة دون أن يكلّمني أحدٌ. الحنين إلى شجرة التوت التي أكلْتُ منها ما يكفي لسنينٍ ولم أدرِك أنها ستلعنني مدى الحياة. الشوق إلى العودة إلى آدم وحواء واقتلاع خصيتيه، أو ربّما تسكير فجواتهما ببعضٍ مِن الباطون المسلّح أمام الرغبة – المصيبة – الأولى، لأنّي لا أثق لا بنفسي ولا بِكُم ولا بالواقي الذكريّ؛ عندها لم يكُن ليحدثَ ما حدثَ، وقُضي الأمر على هذا الفيلم المتوحّش الذي لم يَعرِف أن ينتهي إلى الحين. من ثمّ، أستريح. لا لن أستريح! أحبّ إتمام جميع واجباتي، ولن يخلو الأمر من إجبار هابيل على قتل قايين، ثمّ تعذيبه حتّى الموت الأوّل.
نحن أجيالُ ما بعد الحرب العالميّة والحرب الباردة، لم نتحمّل وقع الانتقال بغفلة عينٍ مِن الساخن إلى البارد، يجري في دمائنا القلق العضويّ الذي أفرزته في جيناتنا، نستيقظ على التمسّك بماضٍ أبطاله أحداثٌ وشخصيّات أغلبها لم نعرف حقيقة ألوانهن، ويدغدغ بنا الأمان النفسيّ والراحة والاطمئنان، ونغفو على التوجسّ القاتل من مستقبلٍ يقصف الخوف مِنه نصف عُمرنا وظَهرنا.
مضى العمر ونحن نتحسّر على ما لم نملك يوماً، على الماضي الذي نسترجعه بتصوّر الأحداث ورسم صورة وهميّة لها، بالصوت والصورة والكتب.
يُقال إن استرجاع الذكريات والتجارب يُنزِل علينا وحي التفكير بأخطائها وعدم استنساخها والانزلاق بها. ونقول، لدينا شغف بتجاهل السلبيّات - المبالغة العاطفيّة بالنّظر إلى الأحداث السابقة نزولاً عند رغبة ما يريحنا - وإعادة الأخطاء نفسها، بهزليّة وسرياليّة ووقاحة.
لا أعلم هل يُوجَد تفسيرٍ للحنين بوتيرة تصاعديّة إلى وجعٍ وكابوسٍ. أهذا انجراف نحو ساديّة مرضيّة لم تُؤخَذ على محمَل الجدّ وتتجسّد بجلد الحاضر والمستقبل بِسُوط الماضي؟
هذا الوهم ليس وليد فردٍ أو حدثٍ، هو نتاج خوف مزمن، جماعي ومبطّن، مِن مرور الأيام والأحداث بسرعة مخيفة.
بالأمس البعيد، كنتُ في السيرفيس، في طريقي إلى أحد شوارع المدينة المدفونة تحت أرض النوستالجيا. لم أعِر انتباهًا إلى حديث السائق الذي لم أذكر منه شيئاً سوى بدايته وكان طويلاً، والحسرة على أنه درس الهندسة المدنيّة في إحدى الجامعات المرموقة، وأودت به الأيّام إلى الجلوس وراء المِقوَد. علمًا أني، كلما أهملتُ مسايرته كان يلكزني بيده لإثارة انتباهي إلى تفصيل هندسي يقع عليه في الأحياء، كنت ألاحظ أنه لا يبالي بالبناء والعمارة بقدرما يشغف بعمله الكسّيب كسائق يتقن التحدث مع الركّاب بلباقة وسلاسة. التفاصيل الباقية لم تثر اهتمامي، ومن المفترض أنه لا داعي لأن تثير اهتمامه هو أيضاً. لذا، ذهبْتُ شارداً بأفكاري إلى ما بعد الجرأة، وتخيَّلتُ المشهد اجتماعيًا وهندسيًا مكتملًا. ما أجمل الأرياف وهي مؤهّلة بمراكز إعادة التأهيل والعلاج من الإدمان على استرجاع ذكريات الماضي، وهوس إبقاء رِجْلٍ في الحاضر والأخرى في الحنين.
أكثر ما آلمني أنّي لطالما صدَّقتُ كلّ ما كتبه الشاعر محمود درويش، وهذا الألم تحوّل إلى غثيان مزمنٍ مع مرور الوقت. "الحنين وجع لا يحنّ إلى وجع، وجع البحث عن فرح سابق لكنه وجع صحيّ لأنه يذكّرنا بأننا مرضى بالأمل وعاطفيون".
لماذا العودة دائماً إلى الوراء، ألم يحِن الوقت لوضع هذا الموروث في المرحاض وإشغال دورة المياه إلى ما لا نهاية؟ وبأيّ حقّ نؤكّد أنّ "الزمن الجميل" جميل؟ ربّما تيمّناً بشهاداتِ روّاد كلّ زمنٍ، وقد أوصل بهم الوهم والحاضر البائس والمستقبل العاجز، إلى الاعتياد "المريح" على إطلاق صفة الجميل على كلّ زمنٍ مضى، مع الإدراك، باطنيّاً، أنه كان في حينه زمنًا بائسًا، بالحدّ الأدنى.
إستفِقْ من الغيبوبة يا ولد! خرق صوتها جدار الصوت وهي تكرِّر وتكرِّر: "فات المعاد!".
مِن الممتع تعاطينا مخدّر "مستقبلنا ليس بيدنا". ومِن الممتع أيضاً، أنه، وعلى العموم، أصبَحتْ ذكرياتنا عبئًا على أنفسنا والخشية من ثقلها لم تَعُدْ تطاق، وما الحنين سوى ضِيق حِيال الذاكرة، ومطرقة التحرّر من الماضي ومسؤوليّاته والقلق المُرعِب مِن عدم تحمّلها، تدوس على رقابنا وسَيْف المستقبل مسلط.
لم يعد يخطر على بالي المزيد، والاضطراب يمنعني من التمييز بين إذا كان ما أنطق به غضبا وحقداً أم تفاهات وأفكاراً مُبَعثرة، أو أطرح إشكاليّة أو إضاءة على جدليّة أساسيّة تلازِم أي فردٍ منّا. لم أعد أستطيع تحديد مقاييس السَّيل والزبى، فالأوّل قد بلغَ الآخر إلى حدّ العمى. كلّ ما يضايقني هو الشعور بأن الكبير "أحمد خالد توفيق" وكأنه يوجّه الحديث لي شخصيّاً، وأنا لست معنيًا، بقوله: "هل فَهِمتَ الآن الحكمة مِن كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ فلو عاش الإنسان مائتي عام، لَجَنَّ مِن فرط الحنين إلى أشياءٍ لم يَعُدْ لها مكان".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة