ربّاه! إطفِئْ الـ "ووكي توكي" وانظُرْ كيف أسقَطت "الثّوراتُ العربيّةُ" جميعَ التّابوهات! يُشاعُ أنّ قواعدَ مجالسِ الثّورةِ مُتمركِزةٌ على "الفايس" و"التويتر". سقطَ الخوفُ، سقطَتْ الأنظمةُ وسقطَتْ معها آخرُ قطعةِ روثٍ مِن آخرِ بقرةٍ على آخرِ أرضٍ في آخرِ بقعةٍ عربيّة. سقطَ قناعِ التّحرّرِ عن المرهفينَ المنهارينَ، عن كلِّ مَن يستشيطُ غضبًا مِن القمعِ ويعشقُ الإدلاءَ بتصاريحِه توازيًا مع الانقضاضِ على كلِّ مَن يحمِلُ نظرةً متباينة. سحُبٌ مضطربةٌ، جاذبيّةٌ لا تُقاوَمُ، سقوطٌ حرّ.
عشرُ سنواتٍ إلى الوراءِ، بدأتْ "الثّوراتُ العربيّةُ" أو "الرّبيعِ العربيِّ"، ابنِ عمّةِ "ربيعِ پراغ"، الرّبيعِ الكهلِ الّذي افتقدَ وجودَ نظريّةٍ واضحةٍ للتّغييِر، تمامًا كالأحداثِ الّتي تنقلّت بوتيرة سريعة على الأراضي العربيّة، وكان ما كان لثوراتٍ مقنَّعة بشعارات شعبويّة وبرعاية الحفّاضات والحليب.
عشرة سنوات إلى الوراء، لاحَ احتضار الأنظمة العربيّة في الأفق، بدأتْ الأنظمة الأشد قسوةً في الأقطار الأكثر فيضاً في ثرواتها حالة الإحتضار الطويلة. بالتزامن مع استوداع الروح هذا، نَمَت الطفيليّات الباهتة الهشّة الإنتهازيّة، الوقحة والطفوليّة منها، والّتي تنخرُ كالسّوسِ أحلامَ الحقيقيّينَ الجميلينَ الذين لا يتعبونَ مِن المحاولة. طبعًا الرّحمةُ على أيّ طرحٍ بديلٍ، نظريًّا وفي الممارسة. أنتجتْ الممارساتُ الطفيليّةُ، سهوًا أم لغايةٍ خبيثةٍ، الانحطاط عمقًا وتدفّقًا في رأسِ المال. ما العمل؟ ما البديل؟ إلى التّطرّفِ اليمينيِّ دُرْ!
بعدَ عشرِ سنواتٍ على "الرّبيع العربيِّ" مِن الممكنِ البحثُ حولَ نتائجِ تلكَ التغيّرات. استفرغَ علينا هذا الرّبيع كليبات "هلا بالخميس" وظهورَ دُعاةِ التّحرّرِ ومتنفّسي الحريّةِ والنّقّادِ الإنفلوانسرز، على سبيلِ المثاِل، النّاقدُ المعاصرُ الزّعتري.
التّعطّشُ للحريّةِ الّذي تزامنَ مع الرّبيعِ العربيِّ كانَ مرادفًا لقطعِ الرّؤوسِ وهدْمِ ما "نُسِيَ" أن يُسرَق. فاضَتْ الجمعيّاتُ - وتَستحضِرني هنا تجربةُ الأحزابِ واللّجانِ الّتي حملتْ شعارَ تحريرِ فلسطينَ زوراً في مطلعِ السّبعينيّات. مبروك أستاذ! باستطاعتِك الآنَ تأسيسَ جمعيّةٍ لكلِّ موضوعٍ ممكنٍ التّذمرُّ منه. خُذْ هذه! جمعيّةُ الحدِّ من "البقدونسِ"، مُربِكِ الجهازِ الهضميّ.
يقولُ رجلٌ مغمورٌ مِن القرنِ الفائتِ: "ليسَ مِن الصّعبِ أن يكونَ المرءُ ثوريًّا، عندما تكونُ الثّورة قد اندلعتْ واستعرَ أوارُها، عندما يلتحقُ بالثّورةِ كلُّ أحدٍ، إمّا اندفاعًا وراءَ الأحاسيسِ، وإمّا اقتفاءً للموضةِ، وإمّا حتّى أحيانًا مِن أجلِ مصالحَ وصوليّةٍ خاصّة".
مَن هوَ هذا المغمور؟ المأسوفُ عليه "ڤلاديمير لينين" مشرّحًا مفنّدًا مُستبقًا "مرضَ اليساريّةِ الطّفوليّ".
أصمُتْ يا لينينُ هذا! ويُتابعُ الثّوريونَ الغاضبونَ المنتفضونَ المتعطّشونَ المنفعلونَ المتحمّسونَ الجامحونَ الشّبقون: "وثورة بِ كلّ البلدان ... من لبنان لَ هونغ كونغ بدنا نغنّي هيدي السونغ وثورة بِ كلّ البلدان ثورة بِ كلّ البلدان ثورة بِ كلّ البلدان!.."
لحظة، لفتني الآنَ هذا الموضوعُ إلى ضرورةِ الاتّصالِ بالرّفيقِ الأعلى العتيقِ، فالأمرُ مُلحٌّ لا يحتملُ المماطلة. سأعرضُ عليه مسألةَ محاكمةِ لينينَ بجدّيّةٍ هذه المرّةَ، صار بدها دجيج برغر!
تابعي.
في السّياقِ التّاريخيِّ عينِه وحولَ هذا المرضِ الطّفوليِّ الحادِّ، يَستخدِمُ الفتى "أنطونيو غرامشي" إستعارةً طبّيّةً بالحديثِ عن أعراضٍ مَرَضيّةٍ في هذا الاستنتاج: "تكمنُ الأزمةُ تحديدًا في أنّ القديمَ يحتضرُ والجديدَ لم يُولَدْ بعد. وفي ظلِّ هذا الفراغِ تَظهرُ أعراضٌ مَرَضيّةٌ غايةً في التّنوّع". هنا كانَ الرّهانُ خاطئًا بالاعتقادِ أنّ ثمّةَ مرحلةً جديدةً أو بديلًا فعليًّا قد وُلِدَ وبدأ مشوارَ التّخلّصِ مِن رواسبِ الأنظمةِ المتهالكة. مصيرُ الثّورةِ الشّعبيّةِ الّتي تفتقرُ للنّظريّةِ الثّوريّةِ ودراسةِ الحقبةِ التّاريخيّةِ الراهنةِ واضح؛ فوضى عارمةٌ وغيابٌ كاملٌ لأشكالِ التّنظيمِ البديهيّةِ، وكأنَّ في الموضوعِ عيبًا، لذا فلنروِّجْ لعبارةِ "الثّورةُ عفويّةٌ، لا داعي لتوحيدِ القيادة"، وعليه، تَناسي أنَّ التّنظيمَ هو شكلُ التّوسّطِ بين النّظريّةِ والممارسة. إذًا، ما العمل؟ إجترارُ الشعّاراتِ الكلاسيكيّةِ ولكن بطابعٍ عصريٍّ وفقًا لما تستلزمُه الـ "trends". نتيجةً لهذا، مِن الطّبيعيِّ ظهورُ جماعاتٍ وصوليّةٍ تُفرزُ أعراضًا مرضيّةً مشوِّشةً ومشوِّهةً للهدفِ الأسمى، والضّوءُ دائمًا مسلَّطٌ على "المرض".
"ثورة بِ كلّ البلدان! … وبدنا نغنّي هيدي السونغ …"
أوف! أخرجي مِن رأسي أيتها المعزوفةُ وإلّا سأحرقُ قبضةَ الثّورة. أنظري، لقد مَسَكْتُ شاربي!
- دعوا الأطفالَ يأتون إليَّ
- في أيِّ وقتٍ تقريبًا؟
- مساءً
- سنرتّبُ برنامجَنا. لأن بتعرِفْ، اليوم ثورة!
آخ! لو علِمتُ مسبقًا بمدى شَبَقِكم إلى الثّورةِ لكنتُ يوميًّا قمتُ بفيستڤالٍ ثوريٍّ في حُجرَتي، أشعلْتُها باحتساءِ زجاجةِ ويسكي ومِن ثمَّ.. مِن ثمَّ أتقيّأ على المهرجانِ الثّوريِّ، أرتدي وجهي الشّاحبَ وأنام.
بالعودةِ إلى صديقي. صحيح، العزيزُ الخفيفُ الظّلِّ وثقيلٌ المعرفة. نعم، الّذي يعملُ منذُ زمنٍ بجمعِ ما تيسّرَ له مِن الأشياءِ القديمةِ ويبيعُها، الّذي أفشى سرَّه بعدَ أن كانَ مخمورًا، كنّا مخمورين.
كالمعتاد، بعد أن أفرَغَ الكأسَ في أمعائه حتّى النّقطةِ الأخيرةِ ضربَ به بمرارةٍ وشدّةٍ على الطّاولةِ، هو الّذي لم يكن جولةً يملأ كأسًا آخرَ قبلَ أن أنهي خاصّتي. تناولَ الزّجاجةَ وبكلِّ تروٍّ – أحدى أجملِ صفاتِه – بدأ بالصّبِّ وهو ينظرُ إليَّ ويأخذُ نفسًا قبلَ البدء:
- دائمًا ما كنتَ تسألني في هكذا أمسياتٍ عن تجربتِنا العربيّةِ في ريعانِ شبابنا. في السّتّينيّاتِ، السّنينِ الّتي تحسدُني عليها، يقولُها مبتسمًا.
- نعم يا رجل، أعلمُ أنّ الكثيرَ مِن الرّومانسيّةِ والحنينِ يأتي بالضَّرّرِ، لكنَّ شيئًا ما في داخلي يودُّ أن يفكّكَ هذه التّجربةَ بالأخصّ.
- كأسك! تفكّكَتْ من دونِ الحاجةِ إليك.
- هاهاها. إنّي أتكلّمُ بجدّيّةٍ، أتفهَمني؟ أريدُ أن أعرفَ كلَّ شيء. لكنَّ فقدانَ السّعيِ إلى الحقيقةِ يؤلمني.
- كنتُ أتمنّى لو كانَ لنا صديقٌ مثلك في تلكَ السّتّينيّاتِ المجنونةِ، أظنُّ أنّ هذهِ الحقبةَ كانت تَفتقِدُ لشخصِك.
- أنا؟! له! إشربْ يا صاحب.
- أنت شابٌّ صادقٌ لكنّك لستَ مندفعًا، كنتَ ستصبرُ كثيرًا. ولا أقصدُ الإهانةَ أو التّقليلَ مِن شأنك رجاءً لا تفهمْ ذلك، لكن هذا ما كنّا نفتقدُ إليه ... خطوتين إلى الوراء.
يُتابعُ رواياتِه بهدوءٍ وحسرةٍ ممزوجةٍ باللّامبالاةِ، ينظُرُ بين الحينِ والآخرِ إلى الزّجاجةِ ليتأكّدَ أنّها ما زالت قادرةً على تلبِيَتنا، مغيّرًا وتيرةَ سردِه وكأنّه يسعى إلى تهيئتي لسماعِ خبرٍ لطالما كانَ توأمًا لصمتِه. بدأ لسانُه يتلَوْلَبُ في فمِه تمامًا كثقلِ إدراكِه لِما قذفَتْ بنا إليه الخيباتُ، وأردفَ قائلًا:
- كانَ وَقْعُ نكسةِ الـ 67 رهيبًا علينا. لم يستطعْ أحدٌ أن يتكيّفَ معها. ومَن تكيّفَ باعَ نفسَه وباعنا وأدارَ مؤخّرتَه.
وسكتَ قليلًا واستمرّتْ نظراتُه إليَّ وكأنّه يريدُ أن أُفاتشَه بشيءٍ ما. فسألتُ:
- لا تضحكْ ولكن هل حاولتَ مرّةً استشارةَ طبيبٍ نفسيٍّ؟ إلى هذه الدّرجةِ كان هذا الموضوعُ ثقيلًا على كاهلِك؟
- منذ النّكسةِ... توقّفَتْ وظيفةُ الانتصابِ لديَّ بشكلٍ مطلقٍ، منذ النّكسة.
- إسمعْ يا صديقي... لم أتوقَّعْ إطلاقًا ... لا أعرفُ ما يمكنني قولَه ...
- لا تقُلْ شيئًا، لم أخبرْكَ هذه المصيبةَ الخاصّةَ لتَقُولَ أيَّ شيءٍ، مفرغًا كأسًا كانَ ملأهُ للتّوّ.
حاولتُ إنهاءَ هذا كلِّه وكأنّي لم أسمعْ ما سمِعْتُ، مطلِقًا حديثًا غيرَ عاطفيٍّ وسطَ وَهَلةِ الصّمتِ القائمِ، وقلتُ بنبرةِ مَن تذكَّرَ شيئًا:
- لطالما استهواني البحثُ عن موضوعِ الحريّةِ والإنسانِ في الوجوديّةِ، أحاولُ حاليًّا، ورغمَ الصّعوبةِ الّتي تواجهني، الاطّلاعُ على ذلكَ مِن روّادِ المذاهبِ الوجوديّةِ ... هذا ما كنتُ أودُّ قولَه لك.
- مممم بحثًا هنيئًا، نعم، الحريّة.. أن لا تقولَ أيّ شيءٍ تريدُه، الحريّةُ هي أن تعرفَ ما يجبُ أن تقولَه ومتى.
الصورة: عبارة على أحد جدران الإسكندرية، مصر
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة