يربط الباحث الإيطالي انطوني فاراميلي ظاهرة القاتل المتسلسل بالنظام العالمي الجديد الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي والذي نسميه اليوم بالنظام النيوليبرالي. يقول فاراميلي أنه في حقبة ما بعد الحداثة وبعد فشل ثورات الستينات ظهر في العالم الغربي خوف من نوع جديد، قلق بدأ يتوسع في الجو رغم تحسينات في المستوى المعيشي.
هذه الظروف المادية أنشأت ظروفا سيكولوجية جديدة وسوداوية، انتهى معها الأمل بمستقبل إيجابي وقسمت العالم بين أفراد، بين الخاسرين الفقراء والرابحين الأغنياء.
الولوج في العتمة
من يختبر "عتمة" (Sombre - إخراج الفرنسي فيليب غرانريو) للمرة الأولى يشعر بأنه يدخل إلى هذا النفق السيكولوجي الأسود. قد يظن المشاهد أن الفيلم صوّر ليلاً في أحياء بيروت عام ٢٠٢٠. فكما يوحي العنوان، الفيلم داكن وليس فقط في المضمون وإنما في الشكل أيضا، وهذا أول ما يظهر للعين: صورة الفيلم سوداء قاتمة، وليس بسبب عجز تقني كما هي الحال في بيروت إنما بسبب خيار فني يفرضه المخرج على المشاهد الجالس في قاعة السينما متوقعاً فيلماً متوازناً في نوره وظلّه. يجد المشاهد لقطات ضعيفة المعالم تدفعه الى تفتيح جفنيه على وسعهما. ولكن على ماذا؟
في تشابه مع بيروت وأبطالها السيكوباثيون، بطل "عتمة" سايكوباثيّ أيضا: "جان" إنسان سوداوي، لا يتنقل في سيارته إلا ليلاً وغالباً من اجل ممارسة عادته المفضلة: استئجار خدمات عاملات الجنس من على الطريق السريع ليلاً من أجل اغتصابهن وقتلهن بوحشية.
يحاول المشاهد التحديق بشدة لكي يرى، لكن ما يراه هو مزيد من السواد، مزيد من العتمة. يعقّد علينا غرانريو الأبعاد الأخلاقية أكثر بعد: بينما كان يقود سيارته باحثاً عن ضحيته المقبلة، يقع جان صدفة في حب كلير. هذه العذراء، التي رغم معرفتها باعتلال جان النفسي تقع هي أيضا في حبّه.
وُجد القاتل المتسلسل في السينما منذ أوائل القرن الماضي، أي منذ أوائل السينما، ولكن "عتمة" هو عكس كل ما يمكن توقعه من فيلم عن قاتل متسلسل. عدا عن الصورة الداكنة، فإن قصة الفيلم وطريقة تصويره ومنتجته تتعارض مع كل قواعد السينما الكلاسيكية. هذا لا يعني أنه فيلم تجريبي، فالقصّة موجودة ولكنها تفتقر إلى العناصر السردية والشكلية والتشويقيّة والرومانسية التي نجدها عادة في هكذا أفلام. حتى قصة الحب مضطربة، مجنونة. البطل قاتل مجرم والعذراء تحبه بالرغم من وحشيته. "عتمة" هو عبارة عن تنقلات لأجساد هالكة حيناً ومفترسة أحياناً في الظلمة، هو رحلة إلى آخر الليل، من بعد إذن سيلين.
إستخدام السواد بهذه الطريقة قد يكون أمراً فريداً من نوعه في تاريخ السينما، ولكنه ليس كذلك في تاريخ الرسم. اشتهر الرسّام الفرنسي بيار سولاج بلوحاته الغريبة المطلية بالأسود "المتوحّش"، أسود سميك ثقيل يثب من اللوحة على المشاهد. وأول ما نلاحظه عند الوقوف أمام لوحة لسولاج، عدا عن ضخامتها، هو انعكاسنا داخل هذا السواد، صورتنا في حدقتي الوحش. وهذا بالضبط ما يفعله غرانريو في مادته الفيلمية، يرى المشاهد نفسه في سواد الصورة المعذِّبة.
في أوائل القرن الماضي، كان فالتر بنيامين قد وصف تجربة المشاهد في صالة السينما بالتجربة الصادمة نفسياً. فما نلبث أن نفهم ما يحدث في لقطة ما حتى تكون اختفت وحلّت مكانها لقطة أخرى تفرض وتيرة تركيز جديدة. ويدفع غرانريو بهذه الخاصيّة السينمائيّة إلى حدّها الأقصى جاعلاً كل لقطة أكثر صعوبة على العينين والعقل من سابقاتها.
كلها مؤشرات بصرية وسردية تدل على أننا نشاهد ونمشي في حقل التروما والجنون والتجارب المؤلمة. ففي بداية الفيلم وبعد أول جريمة قتل وحشية ارتكبها جان، يمر مشهد لأطفال يتفرّجون على شيء ما، بينما كاميرا غرانريو قريبة من وجوههم المضطربة إلى حد الاختناق… اختناق الأطفال واختناقنا نحن المشاركين في هذه الجريمة الفيلميّة. ويبقينا المخرج في حالة من الصدمة البالغة، فالمشاهد يجهل تماماً إلى ما ينظر الأطفال. هل هو عرض للدمى؟ هل هي جريمة قتل؟
للحظة، نجد انعكاساً لأنفسنا كمشاهدين في عيون هؤلاء الأطفال المضطربة المتحمسة والمرعوبة في آن معاً. وعبر هذا الانعكاس نجد أنفسنا مشاركين بأكثر من طريقة في هذا الجنون.
اللاوعي يتكلّم : الرّب مات والمجتمع انتهى
يقول ديفيد لينش متحدثاً عن معاناة بعض الناس في فهم أفلامه أننا عادة كمشاهدين، لفهم فيلم والحكم عليه، نحاول أن نحوّل التجربة البصرية-الصوتية، أي الفيلم، إلى لغتنا المحكيّة أو المكتوبة. ويتحقق ذلك إما عبر التفكير بالفيلم بكلمات ومصطلحات يألفها وعينا جيداً وإما من خلال التحدث أو الكتابة عن الفيلم، مزيلين بذلك جزءاً لاواعياً من تجربة الفيلم، جزءاً لا يفهمه إلّا عقلنا الباطني. تلك الأفلام لا تخاطبنا نحن كأفراد واعيين، بل تخاطب احلامنا ورغباتنا.
بعض من الصحافة الفرنسية انتقد الفيلم بشدة وشكّك في نواياه الأخلاقية، وبخاصة الطريقة التي صوّر بها المرأة فيه وظهّر رغبتها في حب رجل قاتل ومغتصب. رد غرانريو مستغرباً على هذه الانتقادات قائلاً إن الفيلم عبارة عن حلم، ومسألة الأخلاق لا تنطبق على الأحلام التي تراودنا. فالحلم هو عندما يتحدث اللاوعي، وذلك لا يعني ان الحلم لا معنى له، بل يعني انه علينا تغيير عدسة القراءة وكشف الحقيقة الباطنية التي يحاول الحلم قولها. ولذلك يقول جاك لاكان إن الحقيقة لها تركيبة قصصية fiction. فإن كان الحلم حقيقة مكبوتة نحاول تجنبها، يصبح الفيلم بأكمله عبارة عن هلوسات مضطربة لشخص متضرر نفسياً. وتصبح مهمتنا كمشاهدين لا أن نحكم على شخصيات الفيلم وأفعالها كحقيقة جاهزة، بل ان نرى هذه الأحداث من خلال رمزيّتها المضطربة والمكبوتة لشخص يعاني من صدمة نفسية، ويحلم.
"جان" تائه في الظلام، يغتصب، يقتل، يتنقل، وخلال كل تلك العملية لا نراه مرّة واحدة مستمتعاً بما يقوم به، لا لذّة جسديّة مباشرة من الاغتصاب أو من القتل، لا يخطط بل يستمني خياله "مفنتزماً" طريقة القتل أو الضحية. ثم يغرقنا الفيلم في عتمة من نوع آخر: ينفّذ جان عمله ولا نرى أي عقاب أو تحقيق او محاسبة أو ملاحقة أو حتى أي شخص يكتشف الجثث أو يبلّغ الشرطة عن تلك الجرائم.
الرب مات ولن يأتي لا لإنقاذ جان ولا لإنقاذ ضحية اخرى من ضحاياه ولا لمواساة أي من عائلات او الضحايا أو صديقاتهن. والـ"فرنسا" الوحيدة التي يصورها لنا غرانريو هي فرنسا كاريكاتورية، كيتش، غير آبهة أو عالمة بالعنف الذي يحدث يومياً داخلها، مهووسة بالاستعراض الديبوري.
ينهي غرانريو فيلمه بلقطات وثائقية من الـ"تور دو فرنس"، الحدث الرياضي الأكبر في فرنسا، كأن شيئا لم يكن. يعترف المخرج أن نهاية الفيلم مصبوغة بالسواد الذي يعدّه الفيلم على مدى ساعتين تقريباً، ويقول إن هذا المشهد النهائي يشكل مشهداً مكافئاً (contre-champs) لبقية مشاهد الفيلم، كما لو أن هذه اللقطات الحقيقية واعية وخارجة عن نطاق الحلم المتجلي في بقية العمل. إنها اللحظة المجتمعية الوحيدة التي نراها في الفيلم، باستثناء ذلك المشهد وبسببه، الفيلم واضح في قوله أن "المجتمع انتهى"، نحن عبارة عن مجانين قتَلة أو مُغرمين بقتَلة.
فهل هذا المجتمع المنتهي هو الذي يحلم؟ هل هو الذي يجبرنا على مشاهدة أجساد تنهش أجساداً؟ اهلا بكم في النظام النيوليبيرالي.
عقد مع الشيطان
كان أحد أهم أهداف الحداثة أن يصبح الإنسان لأول مرة في تاريخه محمياً لدرجة معقولة من غضب الطبيعة وغوغائيتها. وساهم العلم والقانون والفكرة الحديثة للدولة في حماية الناس من الأمراض والظلم والكوارث الطبيعية. وأعطت الديموقراطية الليبيرالية الانطباع بأننا لم نعد الوحوش التي كنّاها قبل الحداثة، الانطباع باننا انتصرنا على الطبيعة، ميزنا أنفسنا عنها وحمينا أنفسنا منها.
لكن في "عتمة" نجد أنفسنا في زمن متوحش، سابق للحداثة والدولة، في زمن نصبح فيه إما وحوشاً وإما أجساداً صيّادة وطريدة.
هكذا هو رأس المال، كلما وصلت تعارضاته إلى حدودها وأفلتت وحشية سوقه التي لا تستهلكنا فقط بقدرتها المالية وسطوتها الأيديولوجية (فهي أيضا تدفعنا نحو استهلاك بعضنا بعضا)، حوّلت سوق العمل الانسان الى سلعة، وأقصت العامل الى ركن يضطر فيه إلى منافسة زملائه العمال ومجابهتهم. هذا ما فعله هذا النظام في أوائل القرن الماضي فولّد جاك السفاح في ضواحي لندن ومن بعده حربين عالميتين.
قضت النيوليبرالية على إنجازات عقود من التنظيم العمالي حول العالم، وبدّلت المداخيل بالديون: دخلك لا يسمح لك باقتناء سيارة؟ لحسن الحظ، البنك يقرضك المال الوافي لشرائها. عاجز عن دفع قسط جامعتك؟ لا تخف، البنك يقرضك المبلغ، شرط أن تعمل طوال حياتك لسداده، هذا ان وجدت عملاً أصلاً. دايفيد هارفي أطلق على هذه الظاهرة تسمية "الحجز على المستقبل"، فنحن حرفياً نستعير او ننتزع وقتاً وحياةً من مستقبلنا لكي ننجو من حاضرنا.
جان، القاتل المتسلسل هو إذا تجسيد للسلطة والعنف النيوليبرالي، كما يقول فاراميلي. القاتل المتسلسل، إذاً، هو عبارة عن مكونين: الهوس والإدمان على الاستهلاك، والاستدانة. استهلاك واصطياد أجساد نساء أصبحن يهدّدن سلطة الرجل فاقد القدرة، العقيم القابع تحت نظام كهذا، والرازح تحت الدَين. هو ذلك القلق القاتل الذي يقول لنا إنه، ومن بعد "إلغاء المستقبل" (مارك فيشر)، لم يعد لدينا سوى الحاضر نعصره ونغتاله كي نتلذذ به قبل فوات الأوان.
هو نظام قاتم، قاتل، يحولنا الى مضطربين من خلال اجتياح احلامنا وتسميمها. هو رحلة قاتمة اسمها "عتمة"، سَرَيان في غياهب اللاوعي النيوليبيرالي وقلب الذاتية (subjectivity) النيوليبيرالية. هو فيلم، مثل هذا النظام، يخاطب أحلامنا، ويجعلنا نعيش ما يعجز وعينا عن تحمًله، ما يتجاوز لغتنا.
يخبرنا غرانريو في فيلمه أن هذا العالم لم يعد يحبنا وان السبيل الوحيد للحب هو أن نصبح مثل هذا العالم، إما قاتلين فندمّر الآخر من أجل استهلاك حبه، إما مُغرَمين بهؤلاء القتلة الذين يجسدون تلك الحرية الزائفة الهمجية وليدة فائض القوة والجنون. لكن في كلا الحالتين، يخبرنا غرانريو، اننا أصلاً اموات وفي كل تلك العتمة، لم نعِ موتنا بعد
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة