لم تبخل اللغة العربية يوماً على متكلمها وكاتبها بشيء. إن كان بالتعبير عنه بما هي أداة، أو بمصاحبته في كافة شؤون حياته من شتى الجوانب، بما هي غاية. حتى لأكاد أقول أن الشاعر الجاهلي حين كان يفتتح قصيدته بالوقوف على الطلل متحدّثاً بصيغة المثنى، ما كان يقصد بالثاني غير حرفه وشعره. وعلى هذا فلتقس. واليوم وعلى نفس المنوال، تثبت اللغة العربية أنها كيان فعّال ضدّ التسلّط الواقع على أفرادها، تثير مقاومتَها، عبر تداول ناطقيها، أدواتُ التسلط المسقَط من خارج، بالتوازي مع المقاومة الفلسطينية التي هي من هذا المنظور، محرك أوّل للثقافة العربية الحديثة وأدوات وطرق تفكيرها.
في الفترة التي بدأ فيها الناشطون -فلسطينيون وعرب- بنقل المشهد المقاوم في فلسطين، دعماً وتضامناً عبر وسائل التواصل والإعلام بشكل عام، قوبِلَ هذا النشاط الرقمي بضغط وتعتيم من قبل شركات وسائل الاتصال الكبرى على الحدث، تحت حجج واهية كثيرة، من احترام خصوصيات ثقافية وتحريض على العنف إلخ..فواجه الناشطون الحظر وتعليق القدرة على المشاركة والتفاعل مع منشوراتهم، ما حدا بهم –بالصدفة غالباً- إلى ابتكار أساليب جديدة، رقمية ولغوية، ظهرت أولاً عبر خفض تقييم برنامج فايسبوك في الآبل ستور والمتاجر الأخرى، ما كبّد الشركة خسائر مفاجئة بانخفاض الأسهم على المدى القصير، وهذا من ناحية هجومية، وثانياً عبر استخدام العربية دون إعجام، ما أبطأ عمل الخوارزميات التي هي أداة هذه السلطة الرَّقابية، هذا من ناحية وقائية ودفاعية، وهو ما يعنينا خاصة في هذا المقال.
دون أن نتتبع كيفية وصول الأمر إلى اللغة، الذي قد يختصر بمسألة حرية التعبير، فإن الصوت كان دائماً الوسيلة الأولى للمواجهة، كردّة فعل، تلقائية كانت أم قصديّة. أي القول بأشكاله اللغوية وغير اللغوية. لكنّ القول هنا جاء في المجال التدوينيّ الكتابي أي المرئي، وليس الصائت المسموع، لتلتئم بذلك دائرة المواجهة، في جميع النواحي الدلالية: صوتاً وكتابة فخطاباً.
إنّ التطوّر الحاصل في الحياتيّ (الذي قد يكون حياة أو موتاً)، وتراكم الأدوات والأفكار وحتى عامل الصدفة، يفرض على الفكريّ –شاء أم أبى- التحرك في نهاية الأمر. ما الذي "يشقل" مؤخراً، فكر الفرد العربي، بما يحمله من تراث وآمال وصراعات إن لم يكن هذه القضية بشكل خاص... إنها تستفز التراث وتستجلبه ليقف في صفّها، ما يطرح مسألتين أولاهما تتعلق بالتراث نفسه والأخرى تتعلق بنا نحن. التصادم الحضاري واضح للعيان، كفّة التطور التكنولوجي، ميوله السياسية واستعمالاته في القضايا الإنسانية المعاصرة، وكفّة موقع وتطور العرب في هذه القضايا، وأهمها طبعاً القضية الفلسطينية؛ كلٌّ يستعين بالوسائل المتاحة أمامه، لكن أمام قصورنا في مجال التطور التكنولوجي ومصادره، تبقت لنا اللغة، العربيةُ التي أثبتت قوّة هِمَّتِها وأهميتها الجوهرية في خضم ما حصل. ما كان دور اللغة وكيف ألمعت إلى أهميتها في الصراع الرقمي وانتفاضها أيضاً على سلطات الرقابة تلك؟
قد يتشابه صنع أسلحة من أدوات محلّية بما فعله معظم النشطاء من الاستعانة بالعربية دون إعجام. لكن من الفوارق المهمة التي تحتسب فارقاً للغة، أنّ لها خلفيّاتها التي جعلت إسقاط الإعجام وسيلةً من وسائل التعمية والمناورة، طالبةً منّا الالتفات إلى إمكانياتها بخروجها من القمقم التراثي بهذا الشكل. ليس الأمر بجديد على علوم اللغة التي اهتمّ بها العرب أيما اهتمام لأسباب تطول. يجد القارئ بالعربية المصنفات الهائلة في الرياضيات وعلوم اللغة والكتابة والمنطق وعلوم الإدارة. من هنا نصل إلى علم دعت إليه الحاجات الاجتماعية والسياسية والحربية أيضاً آنذاك، وهو ما يدعى بـ "علم التعمية" الذي ألقى أصوله وتعريفاته وتقعيده كعلم لدى العرب، وهو ما يسمّى حديثاً بالتشفير (من كلمة صفر، عربية المصدر). تلتمع هدفي هذا المضمار أسماء عديدة كالفيلسوف الكِنْدي وابن الدريهم وابن وحشيّة (الذي ينسب إليه اكتشاف الحرف الهيروغليفي وقراءته قبل شامبليون بألف سنة) والفراهيدي واضع علم العروض وأول معجم عربي (العين) وغيرهم الكثير.. علم التعمية وعلم استخراج المعمّى، علمان مقترنان ببعضهما، تشفيراً وحلّاً. ما دخل علم التعمية المقترن باللغة دون إعجام في الوقت الحالي؟
إن إنشاء الخوارزميات التي تعمل في وسائل التواصل الاجتماعي على المحتوى الداعم من هاشتاغات إلى المنشورات وتداولها، يعتمد على قراءة البيانات المتوفرة، وفهمها ثم تنظيفها وتحليلها، وبهذا تلتقط الخوارزميات المحتوى المناسب حظرُه وإخفاؤه، وهو ما فعلته. أما ما رد به النشطاء عبر الكتابة دون إعجام، فهو ما نستطيع عدّه في هذا العصر، نوعاً من التعمية المعتمدة على اللغة (عمي الأمر إذا التبس-الفرهيدي). كان التباساً جزئياً ومتعة اكتشاف لجميع المجربين، وتعميّة ضدّ الآلة، وكان من الممكن جعل هذا النوع أحد أنماط كتابة اللغة العربية طوال تلك الفترة. وبطبيعة الأمر فإن ما سوف يفعله أصحاب الخوارزميات من جديد، هو محاولة خلق خوارزميات جديدة لالتقاط هذا النمط الجديد، أي بمعنى آخر التوجّهَ إلى دراسة اللغة العربية وفهم إشكالياتها بشكل أفضل. انطلاقاً من هذا، يكون على عاتقنا نحن الالتفات أكثر إلى لغتنا بطريقة تتعدى هذه الطريقة الارتجالية، إيماناً بأن تحرير الفرد يوازي تحرير لغته من الحواجز، والقفز نحو التجريب باللحم الحيّ.
نتذكر في سياق ما حصل، ومن الناحية الأدبية، قصة المملوك جابر، التي اقتبسها المسرحيّ سعد الله ونّوس في مسرحيته "مغامرة رأس المملوك جابر"؛ ففيها يُستعان بجابر هذا لإيصال رسالة بطريقة لا تخطر على بال الحُرّاس فتمرّ مرور الكرام واصلة إلى الخارج. تُكتَب الرسالة على جلدة رأسه، ثم يُنتَظر شعره لكي يطول فتتخفى تحته الرسالة وتسير المهمة على خير ما يرام. إذا ركّزنا النظر على نقطة معيّنة في الأحداث، من ناحية التلقّي، فإن قارئ الرسالة سيضطر لحَلقِ شعر المملوك ليستطيع القراءة، بالتالي جاءت القراءة هنا مرادفاً لفعل الحلاقة، أي الإزالة والقصّ، وهو في الكتابة دون إعجام الأمر نفسه تقريباً، لكنّه حاصل داخل اللغة نفسها، أعني إن إسقاط النقاط والحركات عن الكلمات، هو بمثابة حلاقة لها –نعيماً- وتظلّ مقروءة رغم ذلك مع قليل من الجهد التنبؤي. اللغة هنا هي المملوك جابر ورأسه على حدّ سواء، من ناحية الشكل، والرسالة على جلدة رأسه هي المضمون. في القصة الرئيسية، تُطرَح فكرة قتل المملوك، لأنه لا يستطيع قراءة الرسالة، فيكون إجبارياً تدخُّلُ طرف آخر فيفتضح الأمر. وفي روايتنا نحن، سينجو المملوك جابر، ويختار الحِلاقة التي تعجبه طوال حياته.
**
إن اللغة هي مَن تصرّف وكشف عن إمكانياته، وهي الفرضية التي طرح جزءاً منها جان جاك لوسيركل في كتابه "عنف اللغة". فمثلما أن للغة متكلمها، فللغة كلامها الخاص أيضاً. تتكلم من الهفوات والزلّات اللغوية والصيغ غير المألوفة والعامّية. فكيف إذا تقاطع هذا الأمر مع علم التعمية والتشفير القديم. إن هذه العودة التراثية البسيطة، وفهمها ووضعها في سياق حديث، يشير إلى تطوّر أوّلي. "فكما في الفلسفة، وبعكس العلوم الدقيقة، غالباً ما يعني التطوّر العودةَ إلى نظريّة أقدم وإعادة استكشاف الإمكانيات." يقول لوسيركل. ما يزال الموضوع مؤطراً بشكل ما ضمن اللسانيات بانطلاقه من نظام اللغة، ولا يغفل رغم ذلك، في اللغة العربية بالذات، خلفيّته التاريخية والاجتماعية.
تكمن الحضارة هنا في الموقف الإنساني، وليس في تطوّر أشكال الثقافة فحسب، ولسنا بموضع التنبؤ بالمستقبل. الآلة أصبحت هنا في مواجهة اللغة التي أثبتت كثرة حيَلِها عندما وُضعت ضدّها، نعني اللغة بما هي حمل لإرث فكري وليس وسيطَ تعبير فحسب، بل هي نفسها التعبير بشكلها ومضمونها. ألا يظهر هنا بوضوح أن طريقة التعامل التي تفرضها القضية الإنسانية، تلقائيا أم قصدياً، هي طريقة نافعة كبداية لامتصاص التراث، وإن كان بشكل آني، فهو يترك خلفه قواعد تعامله وطرائقه، دافعاً بهذا إلى الواجهة الحضارية من جديد؟ وهو الأمر نفسه الذي حصل مع العربي قديماً: قوّة تنبثق من اللغة وعبرها، في نطاق مليء بالقوى المتناحرة.
الصورة: من أرشيف المتحف الفلسطيني - إميل عشراوي، متاح على موقع Palarchive.org
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة