اللحظة: وقت قصير بمقدار لحظِ العين.
باب الحانة الخشبي يبدو دائمَا ثقيلًا. يدفعه الروّاد بقوة، فإذا به يسبقهم إلى الداخل ويجعلهم يتدافعون خلفه سريعًا كلهم دُفعة واحدة، قبل أن يبتلعهم المكان. الإضاءة خافتة والغبار كثيف يطمس الملامح، ورائحة البيرة فائحة. الجدران مزينة بملصقات لألبومات فرق الروك الشهيرة، تردد أصوات غيتارات كهربائية وطبول، قادمة من مكبر صوت عند السقف، ما يجعل سماع الأفكار شبه مستحيل.
الزمن لا يسيل هنا وأيّ رؤية للمستقبل تكاد تكون معدومة. وما من طريق إلى ماضٍ إلّا عبر استهلاكه. نحاول النظر إلى الملصقات لعلها تبعث فينا شعورًا مريرًا يدفعنا للتساؤل حول "ما الذي حصل؟" "كيف وصلنا إلى هنا؟" لكن الغبار أخفى أي امتدادٍ لنا خارج هذه الحانة، ولم يعطِنا سوى السخريةِ أداةً لننجو من هذا الفراغ. نبحث عن الغضب: نسمع الروك؛ نزيد وشمًا كل يوم؛ وثقبًا جديدّا طال أعيننا، فتحتضننا جلسات العلاج النفسي التي باتت إلزامية لقتل أي دافعٍ فينا للصراخ. وينتهي كل هذا المجهود لتفادي الغرق، بانبعاث أملٍ ضئيل في أن شيئًا جديدًا قد يحدث. أمل ضعيف لا يلبث أن ينقلب إلى قناعة كئيبة بأن لا شيء جديدًا يمكن أن يحصل على الإطلاق. قد تكون هذه هي "الواقعية الرأسمالية" التي تحدّث عنها مارك فيشر، أو رجل نيتشه الأخير، الذي رأى كل شيء، لكنه بات شديد الضعف جرّاء فائض الإدراك الذي يعيشه.
كيف يحيا المرء بعد أن يفقد القدرة على صنع المفاجآت؟
كانت عطلة نهاية أسبوع اليوبيل للملكة إليزابيث حين راح جون ليدن بملابسه السوداء المهترئة وشعره البرتقالي القذر، يزمجر على زورق نهري أغنية "حفظ الله الملكة" لـ"سكس بيستولز"، ليعلن أنه لا مستقبل في أحلام إنجلترا. كان هذا في مايو 1977، وكانت لا تزال فرق الروك تصرخ القبحَ كلّه في وجه أوروبا والعالم: ملابسُ ممزقة من البلاستيك اللامع لأكياس القمامة، أو بقايا الإطارات القديمة؛ شعر أزرق، أخضر، زهري، مصفف في هياكلَ شاهقة، ضاهت في غرابتها أغطية رأس ماري أنطوانيت. ثقوب في الأذنين والأنف والفم. وذيول عارية لجرذان صارت حيواناتٍ أليفةً حينها.
كان المشهد فظًّا، لكن العالم كان تواقًا للدهشة. بحث جون عن شيء حقيقي لا يمكن إنكاره: ليس على الأحلام أن تنتهي بصمت، لا بدّ من إثارة كم مهولٍ من الصخب. في ذاك اليوم من شهر مايو، أوقفت الشرطة رحلة الفرقة في نهر التايمز، وغنّت فرقة "كراس" بعد سنة، "نهاية الروك".
أنقذت الدهشة المستقبل من الانتهاء إذًا. بدا لبرهة وكأن الشارع تحوّل إلى صالةٍ شاسعة؛ كأن الصالة أصبحت شارعًا مظلما. لكن شيئًا لم يتغيّر بالفعل. جاء المستقبل بصورة أكثر سذاجة عن الحاضر. كان صعود الشارع إلى صالونات الأزياء مفاجئًا ومتوقعًا بشكل غامض. هكذا تبتدع الموضةُ الجمالَ، عبر الإنكار الجذري له، أي عبر مساواته بالقبح*. فصار الفقر جميلًا والحزن جميلًا والموت جميلًا، دون الحاجة لانهاء أيٍّ من ذلك. قد يبدو لوهلة أن الموضة تهوى القبح، لكنها في الحقيقة رغبة محبطة للقضاء على كل أشكاله. كلّما أخذ القبح شكلًا محددًا، غربت مشهديته في الأمس. فالموضة لا تحيا إلا من خلال الدمار. تظهر لتعلن هلاك ما سبق، وهلاك ما أحيت لتوّها، فترسم بذلك الزمن الماضي، وتكسر أي اعتبار للأزلي خارج اللحظة، فتتحوّل إلى لحظة واحدة؛ لحظةٌ واحدة من الأبدية.
للمفارقة، يشكّل "الحاضر الأبدي" حالةً من المشاركة والانخراط في واقع الوجود عند ابن عربي. الزمن إسناد عقلي؛ شيء نتخيله في أذهاننا، ثم نربطه بأحداثٍ نشير إليها بمصطلحات زمنية. إلا أن الزمن بالنسبة إليه مجرد سلسلة مكونة من لحظات "الآن"، والانخراطُ في إحداها يؤدي إلى عملية خلق. فإذا كانت الموضة حاضرًا أبديًا، فهي إذا إحتفاءٌ بعملية خلقٍ، شكّلت فيها حركات البانك (الروك) ذات مرة، إلهًا، أراد وجود العالم، فنظر إلى نفسه وعرفها.
* جان بودريار
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة