انقضى الشطرُ الأولُ من الفجرِ، هكذا حلّ سريعًا ودونَ إنذارٍ.
ثمة اختلالٌ عميق في عجلة الزمنِ. نمتُ ساعتين، وكان هذا واضحًا رغم تعطّل الساعة، وعلى عُجالةٍ أَفقتُ، كطائر عنقاء، أخذت الكاميرا، دفتراً صغيراً، وطرتُ نحو المستشفى.
أتحسسُ رأسي فيبدو أكبر، يصعبُ التكهنُ إذا ما كان هذا هو رأسي حقًا. تقول أمي أن رؤوسنا تتضخم عندما ننام وأن العالم بأسرهِ يلجُ فيها ليستريح من تأدية مُهمتهِ الواقعية. أتعمدُ أن أتحسّس رأسي، أتحسّسه بسرعة كجنديةٍ خوفًا من رصاصة طائشة أو قذيفة مسعورة. لم تعد خوذة الصحافية تُجدي نَفعاً، ولم تعد التمائمُ التي صنعناها تعمل، لا الصراخ، ولا عويل الروح... أَجري.
الأحلامُ التي أراها تملك فؤوساً، وفي الصباح تصيبني في الرأس. في الحُلم السادسِ، حلمتُ بأني أدسُ أرغفة في عقلي، يبدو سيناريو الحلم مُجردًا من الأجوبة والأجدر أن يكون كذلك، أن يغرق في بحر لُجي، وألا تتكرر محاولاتُ تذكرهِ. لكن شيئاً كالقروحِ مخبوءٌٌ في أفكاري، كطعم الأرغفةِ والدمِ والترابِ، يعودُ لفمي الآن. حين أغمض عينيّ في لحظةِ ثمّ افتحهما، حين أرمشُ، فإن وقع الزمن يتغير مجددًا، في هذه البرهة السحرية من الوقت، يُمكن أن نموت. في هذه البرهة التي يعيد الله فيها صنع العالم، يُمكن أن تموت. يُمكن أن تحترق قوائم أمنيات ما بعد الحرب التي حلُم بها آلاف الأطفال. لكن السماء لا تسقط. صوتي الداخلي يختلفُ تمامًا في الحُلم، سأكرّره على مسامعكم، فهنا نستطيع دومًا العودةِ إلى الوراء، أو الأمام بخطوتين، هل نسيتم؟ عجلة زماننا معطلة:
أريدُ أن أُصدقَ الكِذبة التي تُختلق عنوةً لتبجيلِ النجاةِ، ولهذا أجري، أريد أن أصدق أنَ فِعلَ الهروبِ في مُربعٍ مُهددٍ بالإبادةِ العاجلةِ يُعدُ حدثًا هامشيًا يستيقظُ عليه العالمُ بينما يتناول فطوره. أريد أن أصدقَ هذا من دونَ أن تسحبني قدماي نحو الأرضِ. أريدُ أن أجري بقدرِ ما أختبئُ من رشاشِ الموتِ الذي تفوقُ سرعته آخر فكرةٍ متطايرة التقطتها فجأة من الهواء ومن الدخان والدمِ والتراب. أشعرُ بغضبٍ مُسمرٍ كالحجارة، وبغضبٍ آخر مُرتد لتحطيمهِ، لكنني ومُجددًا أجري لكيلا أفوّت اجتماع أسرتي بينما ينقُشونَ أسماء بعضهم بعضًا على أيديهم بالدمع وبالحنّاء وبالحبر، ينقشون ويَحلمون، يقولون إن ما يحدث حُلمُ عالم سابع لن تعود الأرض من بعده كما كانت عليه، ويقولون أننا لن نموت، وأن النار ستجعلنا جزءًا من هذا العالم السابع، وأننا نحن من سنشيّده. لكنني ما زلت أفكرُ في فرضيّة أن يكون كُل ما أراه حُلماً، وأجري. أفكرُ أيضاً في أن أكتب اسمي بخطٍ عريض. أيّ معنى جديد سيخرج من وجود اسمي في العالم الجديد؟ أمي تقولُ إنني لا أشبه أحدًا، وهذه من الأفكار التي يصعب عليّ فهمها، فحين نموت ويعثرون علينا، سيتشكل لأسمائنا معنى آخر، ولن يشبهنا أحدٌ قط. تقول أمي هذه الجملة وهي تشدُ عليها، تُطيلها، تتعمد هذا بينما تحاول أن تحصر وجهي في عيونها كما لو أنها تستعد لأخذي بعيدًا قبل هذا كُلهِ، يضيفُ أخي الكبير: هذا سيُرعب الموت...، أسماؤنا المكتوبة.
جسدي على حالهِ يتآكلُ، ويتضاءل كلما صحوتُ في الحُلمِ، يقضمني شيء ما لا أسبر له غور، ها أنا أجري في مساحات من الاسمنت المحترق. ويتهاوى قلبي كما بارود النار عميقًا في أرض أعرفها. أواصِل هربي من القنابل، ثمة عمارتين تكثر فيهما التجاويف، ومن داخلهما يقول صوت: حين لا تكون هناك نوافذ، حين تسقط كلها، تكونُ الحقيقةُ اختبارًا. اصمت، وأتابع الجريَ الحثيث، وعلى مقربة مني أرى المستشفى، نصفهُ مهدم ٌ ونصفه الآخر يرتجف، كان ما يزال قائمًا، على الأقل حتى هذه اللحظة. حين دلفت المصعد وارتفعنا ببطء، فكّرت ماذا لو لم أتمكن من الوصول، لكن إلى أين؟ لا أدري، كنت أواصل الجري كيلا أفوّت اجتماع عائلتي.
كان عالماً منذورة أمكنته وأشياءهُ إلى التبدل، أعاودُ النظر إلى ذراعي، أتخيّل اسمي مكتوباً، يقرضني قارض الخوف فأتقلّص وتشبُ بداخلي النيران فأشعر كما لو أن العالم بأكمله يتأرجح حين يهتز بيت صغير ويسقط قبل الطلقة. في الساحة رأيت حديد القنبلة، كان مُسنناً، ويطارد شيئاً ما خلفي، للحظة حسبته موجهاً إلي، ولا أعرفُ إن كان ما رأيتهُ دقيقاً، لكن ثمة إنسان انبثق منها ليحارب العدو، وإذ أنني في المنتصف، في هذه الساحة العارية إلا من الموت، قبل الهجومِ، وبينهم، شعرتُ بالحاجة الملحّة لكي أراقب ما يحدث، لكن صوت أمي انبعث مجدداً كالأجراس المجلجلة، حاداً، وقوياً، كانت تناديني، كان صوتها حقيقياً. حين ابتدأت الحرب، وانطلقت النيران، غدا صوت أمي أكثر الأصوات وضوحاً، لكن حينما خَفَتَ، وانسابَ إلى مدىً ما بعيد ألمتني ذراعي. فرسمتُ قلمًا في الهواء، تخيلتهُ فَوُجد، ذلكَ أن عالمنا السابع يتحركُ بالأُخيولات، وغالباً بكل ما لا يكون من المنطق التفكير به. سقط القلم، وبارودٌ ونار، فعاودتُ الجري. كان القلم أطول من المعتاد، وأقرب إلى السّيف، حاولت أن أرفعهُ، وأكتبَ، لكن ذراعي كانت أصغر، سمراءَ وناحلةً، دونتُ اسمي.
يجتاح الحلم فجأة دوّي الصواريخ، فأحسُ بقلبي يطرقُ في رأسي كمنجنيقٍ، يسقط القلمُ، وأتعثر بأول حجارة، أنهض مجدداً فأقيء غضبي كالدماء، ومن فمي يخرج الموت. السماء التي كانت موصدة تفتح لنا ثقبًا كبيرًا، منه تصعد صرختي الأخيرة ومنه يجيء البارود ووميضٌ أزرق، وأجري. هذه المرة تتوثب روحي وتستقيم كجندي من حديد، أُصيخ السمع لصوتٍ أحسبهُ مألوفاً، يقولُ: الحقيقة... ويتمدد في الهواء.
هذا صوتي، وبحّتهُ المتقطعة، قلقهُ المبعثرُ المسكونُ بالغضب، وأجري بينما أسمع الإجابة تتردد كالصدى المتآكل: ما هي الحقيقة؟
عندما رفعتُ رأسي إلى السماء التي تضرّج سقفها بالحُمرة والدمِ وبآخر استغاثاتي المنتفضةِ للربِ، بدا رأسي أثقل، كان ثمة طائرتين من طائرات العدو ترسمان بدُخان من رماد كثيف هذه الكلمات: ما هي الحقيقة؟
يصبح قَلمي خَفيفاً كريشةٍ عصفورٍ وليد. حجمُه لم يتغير، إلا أن رأسه بدا كفوهة سلاحٍ. صوبتهُ باتجاه السماء لسبب أجهله، لكني رأيتُ خيطًا أحمرَ قانٍ تدفّق منه وانطلق نحو السماء، كتبَ بدمائي: هذه هي الحقيقة. حين هطل المطر، كان أحمراً، وصارت بعدئذ رائحة الأرضِ تشبه رائحتنا. غدونا نحن الأرض، داخلها، في الجذورِ، في الصخور، في الشجرِ، في الرياح، إلى أن استحال قتلنا.
بعد أيام قليلة، وعلى إحدى القنواتِ، قرأت للناسِ ما دونتهُ في دفتري الصغير الملطّخ بالتراب والدمِ، لا أعرف أي جزءٍ من حياتي يبدو واقعيًا أكثر، الحُلم أم ما أعيشهُ: ينحسر الألم كالأمواج، بعيدًا وإلى الأقاصي، ثم يعودُ ليُسقطنا، وحين يمضي مُجددًا إلى دربِ انحسار جديد، نفيقِ، ونتساءل إذا ما كُنا نحلم، نُعيد السؤال لنتأكد أننا مسموعون، ولا أحد يُجيب. حين نستيقظ، ويبدو المدى فسيحًا، خاويًا، وفارغًا، تتملكنا رغبة في الصراخ، لأن المسافة ستجعل أصواتنا أقوى، ولكن مجددًا لا أحد يسمعنا. أحيانًا، ومن بعيد أيضًا، تعبر أصواتُ احتجاجاتٍ، وأغانٍ، ورياح، تمر الأصواتُ كخيط، لكنها في غاية الضعف، ولا تبدو لنا - في الغالب - إلا سرابًا. ربما هي من أحلامنا المرعبة التي فقدنا فيها كل شيء، وملَكنا فيها كل شيء.
يقول الأطفال حين يستيقظون في المستشفى بعد النجاة، بعد الانحسار الوهمي لكابوسنا الجماعي: هل نحلم؟ قولوا لنا أننا نحلم. هل يستطيع العالم أن يخبرنا بأن هذا كلّه مجرد حُـلم؟ الأحلام حقيقية أيضًا. الأحلام أعنفُ من الواقع في عرضها للحقيقة. بل يمكن للواقع أن يكون محض زيف، أكرر هذا لنفسي. يتكرر المشهد في رأسي في كل مرةٍ أشاهد فيها طفلًا يستيقظ من الحلم، وأسقط. يتكرر المشهد، العالم ينتهي كل يوم، ولا يولدُ إلا من صرخة طفل. يشعر البسطاء الذين لا حيلة لهم سوى الهلع والصمت، الذين لا يقدرون على تأطير عذاباتهم في كلمات، ولا على مُشاركة غرقهم في الحزن، أنهم معنيّون. أراهم يصلون، يبتهلون، وأحيانًا وكما لو أنها النهاية، يكتفون بالنظر إلى السماء: أنت ترى يا إلهنا، أنت ترى.كان لقصفُ المستشفيات وقع كبير عليّ، أتذكرُ- في الحلم - أنني أبقيتُ على إضاءة خافتة وأطفأت البقية، أسدلت ستار غرفتي، كانت الساعة تقارب منتصف الليل، فتحت شاشة هاتفي وقرأت الخبر، احتاج الأمر عدة ثوانٍ قبل أن أصاب بنوبة هلع، عاودت النظر إلى غرفتي، أردت أن أرى الجدران، زهرة الليلك، كُتبي المتكدس بعضها فوق بعض، ولكني لم أرَ شيئًا. كانت كل الأشياء تدور في دوامة سريعة، لقد رغبت بأن أغادر غرفتي، وأصرخ في المدى، في هذه المسافة بين الانحسار والعودة، وبين الحلم والواقع. إننا نحلمُ يا أطفالي، ولكن هذا الحُلم حقيقيٌ إلى الدرجة التي لا نستطيع احتمالها، إلى الدرجة التي لا يستطيع الواقع ذاته أن يحتملها.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة