قد ترتطم رؤوسنا ونحن نحاول المضي في الحياة بحائط الإحباط الخفي الذي لا نراه ونتفاجأ به وبوقعه علينا، او قد نسقط سقوطنا افقياً، فنهبط هبطة واحدة، نحو قاع مُظلمٍ يخيل لنا انه غريبٌ عنّا، ولم يكن بالحسبان، وانه كان من الأفضل لو تابعنا وجودنا من دون أن نتعثر بهذه العقبات، ولكن لا سبيل للهرب من بعض الأمور التي عودتنا الحياة أن ندفع بها نحو الأسفل، أن ندفنها، ونسعى لنسيانها، علّنا نكمل من دونها ومن دون جلبتها. وفعلاً، قد ننجح أحيانا، ولكن سيأتي وقت نجبر فيه على الوقوف في وجه تلك الأفكار المخيفة، وستتحول الافكار الى واقع وقح، لن يذهب الا بمواجهة وبصراع داخلي وخارجي، لفرض السيطرة على الذات.
بإمكاننا ان نجد من يعبر عن تلك المواجهة هنا وهناك، في ذاك الفيلم او تلك الأغنية، في رواية صغيرة، او عبر شعر شعبي او رابْ ينبعث من قلب المعركة. فالشعور بالخوف والإحباط مادة وكيان قابل للقولبة، وتستطيع الدخول فينا والخروج منا بشتى الاشكال والتجليات.
جاءكم من عالم البروغ!
وفي أعمق الظلمات، نجد اعمال ستيفن ويلسون عارية وصادمة، فالموسيقي الإنكليزي متعدد المواهب والمشاريع الموسيقية، لا يبالي بك او بأي تصورات مسبقة لديك عن الموسيقى. قد تصعقك موسيقاه، هي التي يصعب تعريفها ووضعها ضمن جانر معين. ولكن بعد محاولات عدة، يمكننا ضمها الى الـ “بروغريسيف روك"؛ وهو نسق موسيقي وليد الستينيات، مزيج من الاحزان والخيال، الاحترافية والتجريبية في العزف، والتنوع في الكتابة وموضوعاتها. يقوم ويلسون، وهو هاوي الموسيقى منذ عمر الثامنة، بمهمة الحفاظ على ذكريات طفولة مميزة، كانت وراء ضلاعته الموسيقية، وأثرت به فيما بعد. فلقد ترعرع على انغام "بينك فلويد" وسحر السكديليا، فتعرّف على أراض الاحاسيس الشاسعة، والالحان الاكثر قربا للروح ولحظات الحياة الدونية، في المقابل استمع الى فرق "أبّا" و"البيتلز" وابتسامات أعضائها وتفاؤل موسيقاها. وبذلك، وعلى خطى فرانك زابا، يدأب ويلسون على إيجاد صيغة خاصة يتفنن من خلالها ويربط بين تلك التعاسة المصبوغة بالـ "إل اس دي" ومتعة الحياة وجمالية الأشياء الصغيرة والقبلات الأولى. لقد استطاع ويلسون أن يجعل من أحلام الطفولة، وموسيقى بوب السبعينيات والثمانينيات موادَ أولية لكتابة عدد مهول من الأغاني التي تعبر عن تلك الحالات المختلفة، وعن مكوث السعادة والرضا في قعر العتمة والإحباط. ولكي يحقق هذا، تطلب الامر ان يشارك ويبدأ عشرات المشاريع والفرق والتسجيلات، أهمها "بوركيوباين تري"، "نو-مان" و"بايس كوميونيون".
الواقع أكثر إثارة من الخيال
أن موسيقى ستيفن ويلسون مأهولة وليست مجردة أبداً، لأنها تحكي القصص، فيتأكد بذلك الاهتمام الذي يجب أن نوليه للكلمات بجانب الموسيقى، وتتضح لدينا النقاط المشتركة العديدة بين العمل على ألبوم موسيقي، وكتابة رواية أو صناعة فيلم. فأعمال ويلسون هي إحساس بالتاريخ، بوجودنا البسيط والمعقد، هي أوقات مرضنا أيام المدرسة، وفرحتنا بعدم الذهاب الى الدوام. هي إحباط سن الرشد، ومآسي العالم حولنا. فمن أعمق الحالات إلى أكثرها سطحية، يوجد في تلك الموسيقى هامش التماهي مع العالم في جميع تجلياته، وفي ظل إختلاف رؤيتنا للعالم حولنا، يبقى هنالك بعض الثوابت والبديهيات الإنسانية. وهي تلك الأوقات التي ننجرف فيها نحو الظلمات، نحو قاع النفس البشرية بعد اهترائها من عصف الحياة وأشعة المصائب السوداوية. نتشارك تلك الأحاسيس كبشر مع ويلسون، فنركب قطاره ونحزن على انتهاء علاقة أو موت طفل، نذهب الى اقاصي الرعب والخوف البشري من الموت والوحدة، من الفقر والتشرد. موضوعات معاصرة تربط واقعنا بما يجب أن نراه في الموسيقى إذا أمكن التعبير. فما نفع الموسيقى إذا لم تؤلمنا وتعرينا وتصفعنا؟ أليس حريًا بها أن تجعل من الاستماع اليها جولة في التأمل والتفكر في النفس والحياة؟ فموسيقاه الحزينة ليست بكاء أو ندمًا، إنما هي تطهير عاطفي لجميع المشاعر ورواسبها التي لن تنبعث وتروَض ابداً عبر الاستماع للموسيقى الفرحة والسعيدة فقط - تلك التي تنقل المواضيع الإيجابية وتعزز الأنا - بل نحتاج الى الاصطدام بذلك الحاجز الذي بنيناه، والذي يساهم إحباطنا في تقويته. ففي بعض الأحيان، نكون في حاجة لأن نهوي إلى القاع، أن نشعر بتلك العتمة، لندخل حالة غشية ونخرج فيما بعد، وقد اعتدنا على المخاوف والمجهول. يفعل ويلسون ذلك بتركيبه للألبوم، فتكون الافتتاحيات إمّا خفيفة رقيقة، تحضرنا للغوص في قصص كل أغنية، او تماثل عجيب، بين قدرة الموسيقى على محاكاة المشاعر المختلفة، فتكون سريعة ووعرة وانفعالية.
يجعل ويلسون من براعة العازفين، اوركسترا للوصول الى جذور تلك المشاعر البشرية. فيكون الساكسوفون مثيرًا، ومصدراً للقلق والوحدة ايضاً. وترافق كوردات البيانو أكثر الحالات رقّة، لكنها تبقى جاهزة لتنقض عليك في وقت آخر، فتتحول الى ذهول وضيق في التنفس. نتعرف فيما بعد على المشاكل والأحزان التي تدور في فلك الأغاني، فمن أمٍ فقدت اطفالها الى مدمنٍ وسكّير الى بلاهة وضراوة الحياة المعاصرة وانشغال الأطفال عن اللعب ومعاناة الأهل المادية، ووصولًا الى الحروب واللاجئين وأحلام الشعوب المسروقة، مرورًا بمهمّشي المجتمع والقلوب المفطورة بسبب العلاقات الفاشلة. موضوعات تربطنا بالموسيقى عبر مشاركتنا المعاناة الجماعية، وشمولية القصص وعلاقتها بالظلمة التي تطال الجميع أينما كانوا وأينما حلوا. فهذه الموسيقى تسعى لأن تجد في نفس كل شخص، قالبًا لاستقبالها، وفهمها وإسقاطها على حياته/ها بطريقة خاصة وواقعية، وويلسون يكره الخيال والهوبيتز والكائنات الفضائية أكثر من كرهه للسعادة غير المبررة في أغاني الراديو. لذلك، وبالعودة لدور الموسيقى الحزينة او الميلانكولية، نجد أن لا سبيل للتعاطف مع أي عمل والإحساس به ما لم يكن فعلاً يعنينا.
قف، حاول مرة أخرى
لا تخلو الالبومات من النهايات السعيدة، ومن الصحوة بعد تلك الكوابيس، فنشعر بإشراقة شمس نهار جديدة. وهذا بيت القصيد، لأن الأغاني هنا هي مجرد حالات، ونماذج من الظلمات والأشكال المختلفة لكي يُحكم اليأس والإحباط سيطرتهما علينا. فتمر وتنتهي بعد أن نكون تعمّدنا بماء القاع، وغرفنا منه مادةً مجهولة هي وقود صمودنا بوجه ما ستظل ترسله الحياة نحونا. فإلى الكلمات التي توحي بالبدايات الجديدة وعدم توقف الحياة او انتهاء الحلم، يضيف ويلسون لمسة موسيقية تجعل الآلات تتنكر كأصوات الطبيعة الام، وتساهم في تهدئة نفوس المستمعين بعد رحلة طويلة مليئة بالمطبات العاطفية.
عندما تستمع الى موسيقى ويلسون تشعر بحزن غير مبرر يغلف الحياة بشكل عام، قد نشعر بأن الحياة ستنتهي، وبأن لا معنى للأشياء بعد الان. لكن، سرعان ما ندرك أن ما من مهرب إلا عبر مواجهة تلك الاحاسيس والافراج عنها لبرهة، حتى نتمكن من التكييف مع محيطتنا، وإدراك أن الموسيقى قريبة من القلب والعقل والواقع، وليست فرحًا وغلافًا يوتوبيًا، لا تبرير لإيجابيته المتواصلة.
موسيقى ستيفن ويلسون حزينة لأنها حقيقية، تضرب الجروح مباشرة، وهذا فعليًا ما يجعلها رائعة للغاية. إنه واحد من أولئك الفنانين الذين يذكّروننا، وبغض النظر عن مدى محاولتنا تجاهل الحقيقة ودفنها بالتنفس داخل فقاعة ذاتية من السعادة العابرة، يذكّروننا بأن ثمة حزنًا في داخلنا، وأن لا بأس في ذلك.
***************************************************************************
"ومع مرور المدن الهامدة عبر نافذتي
أري قمراً يغسله الضباب
ثم يقتل صوتٌ في رأسي السكون
ليقول:
اتبعني الى اعماق الوادي
فضوء القمر ينزف من روحك
لا تقلق يا عزيزي، فهذا العالم القاسي ليس لك
وأرخ رأسك عليّ، فلدي القدرة على حملك"
*******************************
"ربما حان الوقت لكي اتوقف عن السباحة
ربما حان وقت معرفة أين أنا
ماذا علي ان أفعل، وأين يجب أكون
ولكن ما من أحد ليعطيني خريطة"
******************************
" لدينا هذا الحب
ومع انه ليس كافيا بوجه مصاعب
الحياة وكدماتها وحروقها
لا نزال نمتلك قلباً
ولا يمكن لشيء ان يمحي حبنا"
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة