البسطاء عادةً حقيقيون جدًا، إنهم عاديون، ولا عنصر إبهارٍ في مشيتهم ولا في حديثهم ونبرتهم وطريقتهم، تعرفهم من لمعةِ أعينهم، روحهم المفعمة، حركتهم التي تشبه الثورة، مثلًا هم لا يملكون مالًا ولا سلطةً، يقفون على شرفةِ الحياة ويصدحون بالحقيقة، غير مكترثين، لأنهم لو لم يقولوا ستبقى الحقيقة عالقةً في حلوقهم، تقضُّ مضجعهم، تدخلُ إلى أحلامهم كشبحٍ لئيم، إنهم يملكون ضميرًا زائدًا، يحفرُ في وجدانهم، لا يتركُ لهم نفسًا ليأخذوه، عندما تنظر لأيديهم تجدها أيادي شعورٍ بحقّ، يرتجفون، يتعرّقون، يتحولُ لونها بين درجات الأزرق والأحمر والأبيض، من المؤسف أنهم بسطاء ما داموا على الحقِّ سائرون بهذه الطريقة التي تذكرنا بإنسانيتنا التي كنا -بدورنا- قد نسيناها ونحن نحبو وراء العالم الزائف.
لكنهم بعد أن يصدحوا، هل سيبقون؟ هل ستُهدمُ هذه الشرفة من تحتهم ويتفتتون مع رمادِها؟ حتى هذه الشرفة ليست لهم! إنها مؤقتة لا يقوون على زراعةِ شتلةٍ في أرضها، هم في حالةِ تأهبٍ دائمةٍ للرحيل والذهاب، ذاك الذهابُ الأخير الذي لا عودة منه، هُم في الحقيقة لا يملكون ما يخسرونه، لذا يذهبون بخفةٍ ويسر، تاركين وراءهم كل الأشياء لكل الناس الذين سيأخذونها بقوةٍ وثقلٍ ويتشبثون بها أيَّما تشبث.
وغير أنهم لا يملكون من الماديات شيئًا، هم يملكون من الآلام ما يكفي، ليشعروا، لتتحرك الضمائر، لتهتز القلوب، ولتفعل الأجساد، يعلمون المرَّ علم اليقين، تجرعوه من قبل ومن تجرع في الماضي، يعرفُ مرارة الحاضر.
نعم، إنهم الحلقة الأضعف، لكن بين أيديهم كل أسباب القوة التي تدفعهم نحو البوح الجَهْوري، الدافعُ يتدفق من النفس، والنفس هنا أمَّارةٌ بالقول، بالحق، لا السوء والجبن.
يحبون القضية، وكأنها وُلدت منذ أيام، لا تنطفئ جذوة الشغف لديهم، وكأنهم كلما انتهى فتيلٌ أبدلوه.
على الطرفِ الآخر من العالم هناك الجبناء، الذين يخافون الخسارة، لأنهم يملكون الكثير، الذي لا يعتبر كثيرًا البتة، وهم في الغالب لا يعرفون عن الكدحِ سوى اسمه الذي يذاع في الأخبار، الذي ضجروا منه كثيرًا في تلك الأثناء حتمًا، إذن فكيف ستشرحُ لي عن معالم بلدٍ لم تزره؟ من أين ستنسج التفاصيل؟ تلك التفاصيل التي تصنعُ الحكاية بأكملها.
عندما ننظر نظرة خاطفة، نجدُ الجبناء يرتدون ربطات عنق الشجاعة، والشجعان يتنحون عن المشهد، ويفضلون الظل على الضوء.
إنها قسوة الحياة الآنية، لكننا لا نعرف هذه الآنية، كم ستستمر. وما دمنا إلى نحو الحقِ نمشي، فلا خوف! سنتحلى بالقوة الطويلة، كطولِ أملهم الخادع، وطولِ انتظارنا الملتهب.
إن أجمل ما في الحكاية كلِّها، أن المرءَ لا يتذكر من الأموات سوى من كان حقيقيًا، من مسَّ فؤاده من الداخل، وترك بصمته في وجدِه بعمقٍ!
إذن لتكن لهم الذكرى، تلك الذكرى المضادة للموت، لأن الموت لا يترك شيء إلا يمسّه، لكن ثلة قليلة من الناس، يبقون أحياء فينا رغم الدمعِ والرحيل والعويل.
هي قضية، ليست موجة، قضية عمرٍ، من قبل الحياة إلى ما بعد الموت.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة