لطالما أرعبتني فكرة أنني سأختفي يوماً ما من على وجه الأرض رغم حتمية هذه النتيجة وبديهيتها.
عانى والدي من صدمة نفسية بعد أن فُرِضَ عليه تحمّل مسؤولية عائلته بأكملها في بداية مراهقته. إلا أن "العدوى"، أي حسّ المسؤولية الكبير، انتقلت إليّ في ما يمكن تعريفه بـ transgenerational trauma (صدمة متوالية عبر الأجيال). وكَوني المولود الأول في العائلة، زادت هذه الحالة من ثقل البحث عن معنى في حياتي. ودفعتني كل هذه الظروف إلى زرع بذور حسّ المسؤولية تجاه نفسي وتجاه الآخرين، حتى وصلتُ إلى مرحلة عانيت فيها من نوبات فزع أفرزَها ثقل الأسئلة الوجودية التي كانت تحاصرني، فحصرتها داخل رأسي إذ لاحظت أثرها السيء على من هم حولي. ثم تراجع الحسّ بالمسؤولية بعد أن نَمَت في داخلي فكرة أنني لم أملك خيار وجودي في هذا العالم أساساً، بل صرتُ في بعض الاحيان أسخط على أهلي لأنهم أتوا بي إلى هذا العالم! أصبح همّي الوحيد أن أعيد خلق نفسي بحثاً عن سعادتي من دون أن أؤذي أحداً.
نتشارك أنا و'لينا' بطلة رواية "أنا أحيا" (ليلى بعلبكي، 1958) مشاعر الخوف من أن نصبح مثل النساء اللاتي نَراهنَ من حولنا، أن نكون مجرد رقم يضاف إليهن. أن نبتسم مثلهن، كذباً، رغم الأسى والحزن… لا، لا نريد أن نكون منهن، نريد أن نعيش الحياة بكل ما فيها وأن نُعبّر عن ما يجول داخل ذواتنا. اتفقنا على التمرّد، كلّ بطريقتها الخاصة: هي قصّت شعرها وذهبت للمقهى لترى الحياة بأم عينها واقعاً وتقع في الحب، وأنا بذلتُ جهدي ضمن حدود البيت أطرح أفكارًا تهمّني للمناقشة، فإذا طال الجدال واحتدم صرخوا في وجهي "خلاص!". ذات يوم، تلقيتُ صفعة على وجهي، فانحرفتُ إثرها عن درب التمرد... في تلك اللحظة تبخّرت مشاعري تجاه أهل بيتي، فرَكَنتُ إلى الوجوم والعزلة كدرب بديل. "إن أبيّة نفس الشاعر شيء قاسٍ ومُرضٍ لنفسه بذات الوقت".1 لم أسخط لأن ذلك سيكون بلا نتيجة، بل اخترت الغضب، والغضب هنا يعني القدرة، أو الإمكانية، على "الانفصال من الظروف القائمة وخلق ظروف جديدة" كما يقول بيونغ شول هان، أو لتبسيطها أكثر، أن تتبنّى شعار "اتحاد المنشقين عن قوى الأمر الواقع".
أمّا لينا فكانت لا تزال تواجه السخرية وعتاب أهلها ورغبتهم الشديدة في جعلها نسخة عنهم لتصل إلى حدّ نكران انتمائها لهم، "أكره بيتنا. أطمح إلى هجره إلى الأبد. أعجز في هذا البيت عن تذوّق الغنى، كما أنني لا أتلمس أية عاطفة تربطني بسكانه. عبثاً أحاول كسب ودّهم، أو الانسجام العادي المألوف بين أفراد الأسرة الواحدة. لست منهم. أمقتهم."2
ها أنا أعيش في مجتمع تملأه الغرائب، يصعب فيه التمييز بين الخطأ والصواب، لكن الثابت هو التهكّمٌ والسخرية. وتفوح منه رائحة الذكورية والعبودية، إن اختلفتَ عنهم فأنت مجنون، وإن اتبعتَ غيرهم فأنت مفتون. يتربّص بنا شبح اليأس وصديقيه: الاغتراب والوحدة. لكن الخوف الحقيقي الذي يواجهنا يكمن في اللحظة الراهنة: "لا يهمني المستقبل بقدر ما يعذبني الحاضر: الدقائق الحيّة!"3 أمّا أنا، فيتملّكني الرّعب كلّما فكّرت في ما سأصبح عليه مستقبلاً لأنه مجهول تماماً. فيدفعني ذلك إلى التركيز على الحاضر لاعتقادي أنه الجسر للمستقبل الذي سأصل إليه. قد أخسر حب عائلتي ورفضهم لي في هذا الطريق الشاق والطويل. وقد أُكره وأُشتَم من قِبَلِ المجتمع. لكن ألا تستحق سعادتي كل هذه المصاعب؟
منذ بداية الانقلاب الذكوري قبل آلاف السنين، وعلى الرغم من التطور العلمي والصناعي الهائل في المجتمعات الحديثة، تعاني نساء كثيرات، من بينهن أنا ولينا - وبيننا فجوة زمنية تزيد عن 70 عاماً - يعانينَ القمع والعذاب في سبيل التفرّد والحياة الكريمة. بل وتطوّرت الحضارة وتقدّمت على حساب حرية النساء وكرامتهنّ، صفعة تلو صفعة. فأتت في المقدمة العائلة، رأس الحربة والنسخة المصغّرة من السلطة في العالم، حتى إذا تحرّرت المرأة من قيود العائلة واجهها المجتمع بكل ما يملك من أسلحة للفتك بها. وغالباً ما تساند السلطات السياسية السلطات المجتمعية لانهما تستشعران الخطر عندما يفتح الطريق لتحرر نصف المجتمع ويمهّد لتحرّر المجتمع بأكمله، والنساء والفئات المهمّشة. وهنا تتجلّى عمليات "ستر" المرأة و"تعريتها" كوجهين لعملة واحدة. ذلك أن للستر والتعرية والحجاب معنىً واحد: المرأة جسد إمّا يُغطى باسم الدين أو يُعرّی للسوق الحرّ.4 تُحاول لينا أن تلبس ثيابًا عادية وأن تخفي ما تريده من مفاتن جسدها، وتقول واصفةً مجتمعها: "بحركة لاواعية، شبكتُ ذراعَي حول نهديّ، حين شعرتُ بسريان الخفقة فيهما. لا، لن أُنزِل جسدي إلى مرحلة الابتذال هذه. لن أعرّيه أمام أعين كل الناس. سأرفعه عن عالم الطبقة الغنية، المنحطة في مجتمعنا، وفي كل مجتمع يتاجر بالأجساد. وسأحلّق به أيضا عن أوساخ جيف المتعصبين العميان من الطبقات الفقيرة، التي لا تمتلك في الحياة أكثر من أجسادها و كتابًا إلهياً"5. أمّا أنا فلا أملك الخيار بتاتًا، لأن المجتمع الذي أعيش فيه يفرض على جميع النساء لباسًا محددًا، وكأنه قد خلق قانوناً لمحو أيّ تميّز وتفرّد في الملبس لأي امرأة. وبذلك قضى على آخر وأبسط وسيلة تعبير عن الذات. العباءة: عزاء لما نعيشه. إنها رمز للحزن والظلم الجماعي، سوداء كليلٍ كئيب لا ينتهي، دليل على ما يعانينه من حرمان، فيقدّسونها.
تقول لينا إنّ ما ينقصنا هو الكفاح الإيجابي. حسناً، ولكن ذلك وحده لا يكفي لأننا إن لم نُحب أنفسنا فكيف سنسعى بها ولها إلى حياة حرّة ذات مغزى؟ ألسنا نحن أحق بالحياة لأنفسنا لأننا أدرى بكل جوانبها؟ إننا بحبنا لأنفسنا نضيء طريقاً يسطع نوره لمن يريد سلوك هذا الدرب. وكأن الحبّ نور أبيض يمرّ من خلال منشور زجاجي أنت تجسدينه، فيظهر أثره في تفاصيل الحياة من حولنا كألوان الطيف. ومجدداً، سيرشقوننا بتهمة النرجسية لأنهم يفتقدون الحب لأنفسهم. ففي هذه البقعة من الأرض لا يوجد حب بل طاعة. من طاعة الحاكم إلى طاعة الأهل وطاعة الزوجة للزوج. ويتجلّى فقدان الحبّ وفقدان الشغف هذا في الرغبة بالتدمير والانتقام ممن هم حولهم، وعلى وجه الخصوص المختلفون عنهم. وتنتهي المأساة غالباً بالرغبة الملحّة في الفناء… أن أقول عن ما أراه صحيحاً، أن أعبّر عن ما أكنّه من مشاعر بصدق في جوّ من الأمان، أن أرتدي ما يعجبني ويناسبني. أن أفعل ما يحلو لي في أيّ وقت شئت. أن أهتم بما أريده حقاً وليس بما يُفرَض عليّ. باختصار، ألّا أكون مثلهنّ، "أن أكون حرّة"... ألا يستحق الأمر المشقّة؟
1 سيرانو دي برجراك
2، 3، 5 "أنا أحيا"، ليلى بعلبكي، 1958
4 نوال السعداوي
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة