شو في ما في؟ لا شيء جديد. العودة إلى "الطبيعيّ" شعار المرحلة. لم يعد للإنسان ملاذًا آمنًا لضمان وجوده سوى التمسك بالموروث والاستيطان فيه. كلّ شيء استهلاكي ومُمَكنن. قالها "أوليفر وندل هولمز" الكاتب والطبيب الأميركي: "متى تَفتَّح عقل الإنسان بفكرة جديدة، فلن يعود أبداً إلى آفاقه الأصلية".
كثير ما يرتبط الإبداع بالقدرة على ربط الأمور بطريقة غريبة، بمعنى أخر، هو المبادرة بالانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى منحى مختلف تماماً. وما الانحطاط الذي نحن فيه سوى انعكاس للفراغ وانعدام التكوين والإشراق. وبالتالي لا وجود للخلق، إنما بلغنا الذروة باجترار الأحداث والمكتسبات.
الأصابع تشير إليّ بتهمة الخوف مِن كلّ شيء جديد. فعلى سبيل المثال، لدى شرائي حذاءًا جديدًا، أجد صعوبة في انتعاله قبل مدّة لا تقلّ عن الأشهر. وهكذا الحال بالنسبة للكائنات الإجتماعية التي تتقيّد بخوفها من كلّ شيء جديد/مميّز/مُبتكَر يطرأ على الحياة "الطبيعية". في السياق ذاته، أستحضِر العمّ "دوستويفسكي" للتأكيد: "إنّ القيام بخطوة جديدة أو التلفّظ بكلمة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس".
في شي ما شي؟ لا ثقة بالنفس وخوف مِن المستقبل وسيطرة التفكير النمطيّ. هذا هو الإنسان المعاصر. لا خروج عن المألوف. في المُكتَسب، دائماً في المُكتَسب، وجميعنا نسير على عجلة كالقطيع بخطّ غير مستقيم، رأسي ملصقٌ في قفاك، نحو ماكينة الفرم.
تبّا لـ"أرسطو" وربطه السعادة بالمعرفة. اللعنة على "كانط" ووصله السعادة بالأخلاق والفضيلة. الإستخفاف، كلّ الإستخفاف بـ"لالاند" وفصله السعادة عن اللذة والفرح.
مفهوم السعادة يشكّل إشكالية في الوصول إلى تعريف محدّد لها. لا وقت للتعريف، لا وقت للغوص في التغيّرات المزاجية المتحكّمة بالسعادة والتي تحدّدها الوراثة أصلاً وسلفاً. لا أحد سعيد. الهواء مُمَكنن. سأصرّح: لا إبداع، لا سعادة.
لا تخرج عن القاعدة. لا تخرج عن القاعدة.
مساءً، يخرج اليائس عن القاعدة ليدخل المرحاض العام. يخلع حذاءه وجواربه، ثم يخلع سرواله ويجلس على الكرسيّ، يلتقط رأسه بيديه الإثنتين، يتنهّد قليلاً، ثمّ يبدأ:
- اسمع يا بائس، أعرف أنك هنا خلف الجدار، إنّي أراك. هذا الشيء الوحيد المتبقّي من الرواسب. هل تسمع؟ إنّي أرى.
- ارتحتُ الآن بمجيئك، كدتُ أفقد صوابي مِن الوحدة، لم أعد أستطع السيطرة على الأفكار التي تغزو رأسي.
- لستُ على ما يرام. أتهاوى.
- أنا الآن أسوء بكثير ممّا مضى، لكن أخبرني أرجوك، بما تشعر؟ أنا هنا لأسمعكَ، أَخرِج ما في قلبك يا يائس.
- لا أملك طاقة على الكلام. أنتَ تعلم، مضى يومان ولم أنبسْ ببنت شفة، كالمعتاد.
- استرخِ، لا عليك، تريد أن نتراسل بواسطة الهاتف؟
- لم أعد أتمكّن مِن السيطرة على الماكينات، أشعر بتنميل رهيب والهاتف يسقط مِن يدي.
- تنفّس الصعداء يا يائس. علّمَتني إحدى المعالجات كيفيّة ذلك. أتريد أن أقوم بتجربة أمامك؟ هيّا نتفّس الصعداء.
- لم أعد أشعر بالألم، وهذا ما يؤلمني أكثر. هناك جروحاً بالغة لكن أصبحَتْ بالأمر الطبيعي، أتفهمني؟ تعبت مِن التساؤل حول هذه المسألة، ترويض الألم. بالمناسبة، ما هو الصعداء؟
- أفهمكَ تماماً. المعضلة تبدو على نطاق أشمل. الجميع يبحث عن مخرج.
- وما بالي بالجميع الآن.
يَفتح اليائس هاتفه ليتمكّن مِن إضافة القليل مِن النور على ظلمة المكان، ينحني قليلاً ليسحب مِن سرواله مقصّ أظافر، ينهال به ببرودة على أصابعه الواحد تلو الآخر، ويُتابع:
- في داخلي قوّة هائلة على تدمير كلّ شيء.
- أنا بجانبكَ! أشعلتَ طاقة كبيرة داخلي الآن. لماذا لا نبدأ ولو بخطوة قصيرة؟
- أنا جبان. أعرفني جيّداً. لست بمقدامٍ، اختبرتُ نفسي في الكثير مِن المواقف.
- لحظة، قلتَ جروحاً، يمكنني رؤيتها؟
- فقدت الكثير مِن الذكريات. إنّي أنفّذ كل شيء فقط لأن ذلك طُلِبَ منّي. التكرار. لماذا لا تكتبُ قصّة صغيرة عن التكرار؟ أطاح التكرار بأحشائي.
ينتهي اليائس مِن ورشة الأظافر، يُشعِل سيجارة، يأخذ نفساً ليصل به إلى أصابع رجليه، ثم يتابع ولكن بوتيرة منخفضة الآن وكلماته متقطّعة:
- يقولون إن الإبداع يأتي من رحم الألم. بِئسَ هذه الرحم. أتفهم الآن ما قصدته بالجروح؟
- أحاول…
- غابت عني المتعة منذ سنوات. لم أصنع شيئاً، لم أبلغ ذروةً، سوى ظلمتي.
- لا تفطر قلبي أكثر رجاءً. دعك مِن هذا الكلام. رغم كل هذا البؤس الذي يأكل منّي، ما زلتُ أشعر أنّ هناك فسحة أمل غداً. تعال نستمتع، حتى إشعار آخر.
- الغد وحشٌ مفترس. غدًا سيُولد جيل بأكمله يحمل جينات الجدار.
الصورة: رسم توضيحي لـ "لنكولن أجنيو" لمجلة "تايم" بعنوان "سيناريو الكابوس"
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة