في البداية، آلهتي وجدتها في المرآة، مكثت أمامها طويلا. من ثم مرّت سنين من الاغتراب المراهق الذي أحاول من خلاله أن أبني جسورا أتواصل بها مع ماهيتي. كانت المرآة لي بمثابة رفيقة حميمية لي في حزني وفرحي ووحدتي، منها اجتزأت نفسي كإنسان مستقل في شعوره وماديته.
أحاول أن أفكك المرآة وأن أفهم سبب تعلقي بها. وأن أرى على ذات مبدأ الطبيب/ة: كيف لي أن أعرف الخلل من دون رؤيته أوّلاً، وعلى نفس الإيقاع، كيف لي أن أعرف في خضم الواقع اللئيم أن ما أملك هو جميل، ويجب الاعتناء به وأخذه على محمل الجدية، كيف لي أن أحب، إن لم أشعر.
في المتاجر، البيوت، المقاهي أو حتى في الشارع أبحث عن مرآة. صدقًا، تعطي المرآة الإحساس الخاطئ بالثقة بالنفس. ولكن في نفس اللحظة، ذاك الانعكاس الذي نراه لا يتعلق في كيف يرانا الآخرون. وهذه حالة التفرّد التي أحاول دائما من خلالها أن أجترح مكانا لي، أنا، وسط قصّاصي الأجنحة. وبعد بحث مطوّل عن المرآة، إليكم فقرة الاكتشافات على الهامش: أقدم لكم اكتشاف معنى كلمة مرآة في الفرعونية، ألا وهي "أنخ" والتي تعني حياة. أنظر إلى المرايا، ليس فقط لأرى الجمال لو توهّما، لكن لإثبات الوجود. وضعت خطوتي الأولى على منصة، في مسار يمتد من درج إلى ممشى إلى معرض مكدّس بالناس. في الزوايا، على جانبي الممشى، في النصف، على المدخل يتمحصون العارضات. منهم من عالم الأزياء، ينظرون إليّ بجدية. منهم ممن أراهم في الشارع والمقاهي، ينظرون مندهشين، يراقبون كل شيء. وأنا أدوس في كل خطوة على قيد، حكم، تصنيف، حزن، يأس. انتشيت تماما وشعرت شعوراً أكبرَ من لحظة استلام شهادة جامعية، إذ حصدت ما هو أكبر من ذلك: امتلاك الجسد وحب الذات. عانقت خذلاني من الأشخاص الذين يحيطونني، وحلمت.حلمت بهذا طويلاً، ولكنها لحظة وتبخرت في اليوم التالي. ولكن كما تقول العزيزة مادونا: أنا قوية، وأنا طموحة وأنا أعرف بالضبط ماذا أريد. إذا كان هذا يجعلني "كلبة"، فلا بأس.أنا إنسان يتنفّس حريّته في لحظات، في واقع كتلفاز قديم. مرة بتيجي الصورة ومرات لا. ففهمت أن العيش في هذا العالم يحتاج إمّا مالاً أو عضواً ذكريا، فانتظرت.الانتظار مُميت، وكما تكتب نوال: الانتظار يحوّل الزمن الى اللازمن، والشئ الى اللاشئ، والمعنى إلى اللامعنى.فدخلت العالم الافتراضي في حفنة صور. فكّرت بتسلسل الأحداث هذا أجد أن تبعاً للمرآة وامتلاك المعرفة والوعي من خلالها، يأتي التوثيق: بما معناه الصورة، وهذا ما فعلته على مدار السنين الأربع الماضية.كانت الصورة لي أكثر من صورة ثنائية الأبعاد، لها أبعاد عدة. كائن حي يتنفس، له شعور، ومتحرّك.في مكانيتي، أرى في أعين الكثيرين أن العارضة هي علّاقة ثيابٍ متحركة، وربما يُلحقون بها السمعة السّيئة على سبيل الدّعابة. الجسد هنا مُصادر، مُحاصر، أينما يذهب، على مقاعد الدراسة أو في علاقاتنا البشرية.أضع أسئلتي وتشاؤمي جانباً وأضع ثقتي في رِحلتي، في ارادتي، في قوّتي. اليوم ومن على هذا المنبر، أعلن استمراريتي لحب القوقعة التي خلقت معها.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة