في هذه المدينة هناك من يسرق الكحل من العين، يصوب عليك أسهمًا من علو هشاشته، يلقي عليك تعويذات مفادها أن "تشتري حين تسيل الدماء في الشوارع ". شاب الزاوية ذاك، واجهات المحلات، ناس البلد، كاميرات المؤسسات، لهم أعين تدور في كل الاتجاهات كأعين الدمى البلاستيكية. ولاحقًا تكتشف، بعد أن تصفعك الحياة أكفّاً متتالية، أن للعين فماً يأكل، يفترس للدقّة أكثر. تتسع عين ويد تسحب، تتسارع دقات قلبك في البداية ثم تخبو ثم تنطفئ. لا تدري ما الذي جرى لك، كيف شاءت الأقدار أن تكون بعيدًا عن نفسك، في المكان الذي تبتعد إليه عن الآخرين؟ كيف استهلكتنا المدينة وكيف مضغنا المكان؟
دفعتني "الأحداث" في شهر ميلادي أن أهرول مسرعة من بيتنا. كما لو كنت ماءً ينزل من غربال رمل. غادرت بيتًا علوت طوابقه وأغلقت شبابيكه وتمدد إسمنته بين ثلم الفول وجذع الدالية المبتور. أستأصل الكذب وأرميه بعيدًا ولكنّ القلق، يبقى كصرصور مقلوب يحرّك أطرافه عشرين مرة في الثانية. لا جدوى. بعد كل هذه الطمأنة التي أطبطبها على نفسي، أرتدي أسئلتي مجددا. وكأن يقينًا لم يكن.
هنا، في مقلاة على نار عالية، أتقلب من بيت الى بيت، بيت جديد، ذكريات جديدة، هكذا أقنع نفسي دومًا بالبدء. أعتاد على الوجوه، عناوين الجرائد، والهزائم، فأنسى. أنسى كما يأخذ هاتفك المحمول - ذاك المأسوف على شبابه- ذاكرته معه، إلى أبد الآبدين.
التعاسة البشرية - يقول لنا روسو- تكمن في معنى التقدير القائم على الغيرية. بدأت بالتحديد عندما ولّد الإنسان المجتمع من أجل هدفين. الحماية، والمنافع المتبادلة. قبل ثلاثة أيام شاهدت مقطعًا لمهندس كيميائي أميركي الأصل، ينتقل للعيش في سواحل سيناء، ويصنع اللبن الزبادي لأنه أحب الحياة التشاركية و"روح الأفراد على بعضهم". أما أنا وفي مقتبل عمري (أؤمن بذلك) فما زلت أبحث عن أماني واستقراري الشخصي وتَرْوِيبة من التفاؤل، وسط دونمات ومصالح "ولاد البلد"، فلا أجد مشاعرًا أو منطقًا حتى أفهم هذه الروح التي يتكلم عليها هذا البشمهندس .
أما الارتياب فأصبح عضوًا من أعضائي، يجس المحيط بحذر أفعى. أرتاب من التعرف على زملاء عمل جدد، من دخول مقهى، من شراء منتج جديد. من بدء شيء ما. أدرس خطواتي وكأنني على أعتاب جهنم. أنا في هذه الأيام العصيبة، أحاول رسم ملامح وجهك مجددًا.
لا أعد أيامًا بل أشهرًا، وأسأل الراحة عن مكان يربّت على كتفي، ويراني أنمو كمدّادة ورد. لم أعد أبحث في زوايا الطرقات. أمشي وحسب. لا أرى جمال المدينة التي أسكنها. لا أشم وردها ولا أتذوق حبها. هنا تدخل قصص الحب كما تدخل متجرًا. يمكنك أن تمكث لساعات، تدقّق في منتجك، تسأل عمّا إذا كان سيصمد طويلاً متفحصًا تاريخ انتهاء صلاحيته. تشتريه. تهم من بعدها بالخروج متيقنا أن كل شيء على ما يرام. في يومك التالي، تمضي وأنت تعلم أنك كنت أحمق كالذي يؤمن بالرغبات، بالمتغيرات، بسراب، بحمّى.
حتى جيجيك، يشبّه تجارب الحب بتفضيلاتنا الاستهلاكية فيقول: نريد قهوة بلا كافيين، شوكولاتة من دون سكر، نريد الحب لا الوقوع فيه. علاقات إنسانية آمنة لا تطالها رسوم بيانية تعلو وتهبط. خط واحد كماكينة. كيوم أو يومين في الأسبوع.
أيأس من الوضع العام، أنعزل، أحدق في مرايا البيت لعلي أنتزع اعترافًا مني، أو أكتشف جانبًا آخرَ مظلمًا يحتاج إلى أن يخرج إلى النور. أروّض نزعاتي النازية وأشرب شايًا.
أجلس في شرفتي، أقلب في مواقع التواصل باحثة عن محتوى نسوي يشد انتباهي. أجد أن السائد يختص بمجال التوعية الجنسية وإعلانات لجمعيات نسوية جديدة. لا أستغرب هذا حقًا. ما زال هذا المجتمع المنقوَز، في مرحلة متأخرة من سيرورة تطوره الاجتماعي، ونحاول نحن الفتيات أن نعبر مراحل التصالح مع الذات والجسد والمشاعر والكثير من التجارب السيئة، وحيدات، بلا سند نخبره أن العاطفة لا تُلوَّث باتساع الأعين. وأما الرجال فيتأرجحون على حبال الحظ والحنكة. يؤازرون أنفسهم، يبنون أنماطًا سنوية أو شهرية. يقنصون الفرص. يبتدعون القلق. يوصون بتفكيك الكبت. وإذا أردتِ أنتِ أن تنتسبي إلى عضوية أحد ما، فهذا بمحض إرادتك، لا تقولي إننا لم نحذرك.
أرمي هاتفي على الطاولة، وألعن عجلة الإنتاج، على الرجال وعلى إعلانات إيجار البيوت، في الأزقة، على عواميد الكهرباء، على زجاج السيارات وعلى مؤخرات الناس.
أرتدي عباءتي واتجه شمالًا، نحو الوعر.
الصورة: علاء عطّون
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة