لم يكن ينقصني شيء إلّا تهديدي بأن البيئة لن تتحمّل قذارتي بعد الآن. وصلت إلى حدّها. امتلأت من أخطائي ولم تترك خط رجعة. أخبرني رجلٌ أبيض بذلك. قال: الفرصة انتهت وعليه العوض.. ولكن ابدأي من عندِك باختيار وسائل سفر ذات طبعة كربونيّة أخفّ وطأة على البيئة. استخدمي القطار بدل الطائرة، والمشي بدل السيارة... أو اختاري سيارة كهربائية خضراء، صديقة البيئة. كدتُ أقع في خطابه إلى أن وصل تموز.

أكتب عن الغريب في أكثر شهرٍ رطبٍ من العام. لو كتبت عنه، عني، في الشتاء، قد لا أجرؤ على قول ما أقول. أنا التي لم تعد تحتمل قذارة هذا الكوكب. وصلت إلى حدّي... ثم تذكرت أنني وصلتُ إلى حدّي منذ عشرين عامًا تقريبًا. 

يومها، عام 2003، اجتاحت أميركا والكوكب معها، والبيئة، والأدب، وكل ما ولّدته البشرية، العراق. كنت أتابع الأخبار بشكلٍ مستمرّ. كلّ ما قيل عن العراق يومها كان ضدّه. ثورٌ ويجب أن يؤكل. بنيتُ العراق في ذهني من أخبارٍ وأوراق. ممالك مضت وأفكار انتشرت... وأسلحة متفوقة اختُرعت واجتاحت. ثم اجتيح العراق بأفكار انتشرت وممالك تمضي وأسلحة فائقة التفوّق. احترق بستان فيه، بحثت عن صورته بعد أعوامٍ طويلة. لم يكن العراق صحراء. كان أرض النهرين بستان... وفيه اختُرعت أسلحة متفوّقة. قرّر مصيره يومًا، ومصير غيره أيضًا. ولكن كل هذا لم يعد يحدث منذ ألفي عام. توقّف عن الاختراع... وراح يقرأ. تكتب القاهرة، وتطبع بيروت وهو يقرأ. فظيع. لماذا يقرأ الثور قصة تؤدي إلى موته؟

المهم. وصلتُ إلى حدّي يومها. منذ عشرين عامًا. يوم جفّت مياه العراق ويبست بساتينه.

كان هناك قطارٌ يصل دمشق ببغداد. منذ مئة عام. وقطارٌ يصل حلب بالموصل. ركبه مستشرقون رحالة وجواسيس كثر. قالوا فيه كلامًا تقريريًا كثيرًا. تعداد ركابه وتوزيع مقطوراته على الطبقات الاجتماعية... وصفوا بيوتًا يمرّ جنبها وملابس الناس هناك بدهشة الجاهل. ألم يروا المياه؟ أرأوها وقالوا في تقاريرهم غير المنشورة بأن يومها سيأتي؟ هل حفظوا للمياه مكانة خاصة في رسائلهم (اقرأ تقاريرهم)؟ هل قرّروا عنها بأنّ "الفرصة انتهت وعليه العوض"؟ كانت هذه الرحلات قبل حكم العراق الأخير قبل السقوط الحر، أعني قبل إنشاء الغرب حكمًا في العراق بعد الانتداب وتسليمه لطاغية للمضي في قتل الطاغية. قبل أن يؤكل الثور. 

وصلتُ إلى حدّي يومها، وخجلتُ بأن أعترف بغرابة الموقف. لا أحب الطاغية، ولا أحب قاتله. ولكني في حدادٍ على الثور ولا أعرف كيف أشرح هذا الحداد دون تبنّي القاتل والطاغية. ثم مضت السنوات والحداد مستمرّ. كان عليّ أن أجد خاتمة له. وجدتها يوم قال لي الرجل الأبيض بأن البيئة لم تعد تحتمل قذارتي وبأن الفرصة انتهت وعليه العوض.

الشعور متبادل. هذه البيئة التي أحيت قتلة وطغاة... لا بد أن يطالها شرّ ما ولدت. يقرأ الثور قصة تؤدي إلى موته غير آبه بالبيئة. "ميت ميت". لا قطار يستقلّه ولا كهرباء يغذّي بها سيارة يطليها باللون الأخضر. لون الحداد على الفرصة الضائعة. "ميت ميت." ولما لا؟      

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button