"إذا كنا نحن موضوع الصورة فعلى الأغلب أننا لن نعرف تفاصيل هذه الصورة بشكل قاطع". هذه ليست قاعدة ولكنها إشعار. والجمع (نحن) يعني سكان البلاد المستعمَرة أو بشكلٍ أخصّ سكان البلاد المدركة بأنّها مستعمَرة.
فغالبيّة الصّور المنشورة والمتاحة لنظرنا الالكتروني هي في "رعاية" أرشيفات أجنبية وقد أصبحت في عهدتها من خلال حملات الاستعمار التي لا تنتهي.
[يدور نقاشٌ هنا حول جدوى الصور وصدقية مصوّرها ونوايا حافظها، ويطرح التساؤلات التالية: هل من الأفضل لنا – نحن المستعمَرون – أن نقف ونتصوّر "لكي يبقى لنا أثر"، ثم تؤخذ صورنا فتغيب عنّا ليراها جيل بعدنا، فقط لأن المستعمِر يتقن حفظ الصور؟ أو، لا نتصوّر من الأساس؟ أو، إذا احتفظنا نحن بالصور، كنا لنتلفها لأننا – نحن المستعمَرون – لا نتقن حفظ الصور من بين أمورٍ أخرى لا نتقنها…]
المهم... لم يكن هذا موضوع النص. كان يجب أن يكون صورة إضراب فلسطين في 2021 وصورة إضراب فلسطين في 1936 (أتتذكرون الصورتين؟) ولكن... إذا تناوَلَنا موضوع الصورة على الأغلب أنّنا لن نعلم تفاصيلها. فصورة 1936 المنشورة والمنتشرة – التي نشرتها أنا أيضاً – يرجّح أنها تعود في الحقيقة إلى 2 تشرين الثاني 1929، في ذكرى الحداد السنوي الذي بدأت فلسطين بإحيائه منذ قرار بلفور في 1917. أعلامٌ سود في سوق القدس المقفل والخالي من ناسه موضوع الصورة.
لكن لا بأس، يمكننا في هذا الموقف المحرج أن نتكلّم عن المناسبة.
في المناسبة، هبّت فلسطين في 1929 أيضًا، ووقعت اشتباكات عنيفة في القدس بين الفلسطينيين والمهاجرين اليهود. يومها، دعا المهاجرون إلى "مسيرة حاشدة" (أرأيتم الشبه مع أيار 2021؟) أمام حائط البراق وأنشدوا "الحائط لنا" (ويقصدون حائط المبكى الكائن بجانب الأقصى وهم يتجمّعون أمامه ويُعتبر نقطة أمنية). وانبرى الفلسطينيون للدفاع عن حائطهم هم. وتُعرف الواقعة بـ "ثورة البراق" التي بدأت في منتصف آب وتوسّعت من القدس إلى بئر السبع والخليل وصفد (أنظروا الخريطة على محرّك google – الخليل هي Hebron وصفد هي Safed أو Zefat حسب أصول الهجرة، وبئر السبع هي Be’er Sheva أو Beersheba حسب أصول الهجرة).
المهمّ... عزّز البريطانيون قبضتهم الأمنية ليقضوا على الثورة التي أدّت – تحضّروا للمفاجأة – إلى سعي بريطانيا إلى التقليل من الهجرات ومنع المهاجرين من افتراش باحة حائط البراق بناءً على توصيات عصبة الأمم عام 1930.
وفي المناسبة، كانت فلسطين حينها قد أصبحت تحت وصاية بريطانيّة بعد سقوط السلطنة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى. ولكن، هناك صورة – تتناولُنا - تقول بأنّ فلسطين رفضت الوصاية البريطانيّة أيضًا ولم تكن تريد وضعها تحت إشراف دولي بإدارة بريطانيا. وفي المناسبة أيضًا، نتكلّم هنا عن فترة تقاسم نفوذ المنطقة كلّها (أنظروا خريطة سايكس بيكو 1916... سايكس بريطاني وبيكو فرنسي وهذان إسما علم لشريكين تقاسما نفوذنا منذ 105 أعوام ويُفترض أنّ صلاحيّة مهارتهما في الفن التشكيلي قد انتهت منذ 5 أعوام، أي في مئويتها، إلّا إذا، وبما أنّنا نحن المستعمَرين موضوع الخريطة، قد حصلا على تمديدٍ للصلاحية، ريثما تجهز الخريطة الجديدة).
بالمناسبة، نُفّذ في 1936 أيضّا إضراب تاريخي في فلسطين استمرّ 6 أشهر. قامت حينها الثورة الكبرى ضدّ الانتداب البريطاني وضرائبه ورعايته للهجرات والاستيطان. واستقدم البريطانيون تعزيزات من مصر ومالطا. لكن الفلسطينيين قاوموا واشتبكوا واستمرّوا أشهرًا طويلة في إضرابهم.
بدأت تلك الثورة في نيسان 1936 (أرأيتم الشبه مع نيسان 2021؟) واستمرّت حتى 1939. وتخلّلها – تحضّروا للمفاجأة – توصية عام 1937 بحل الدولتين! دولة للفلسطينيين بعد الانتداب (عندما يرى الانتداب ذلك مناسبًا)، ودولة لليهود (كما وَعَدَ بلفور). وشكّلت هذه التوصية مبرّرًا لاستمرار الاشتباكات، إذ رأى الفلسطينيون يومها خطرًا داهمًا يتلخّص على النحو التالي "لم تعد المسألة مسألة هجرات فقط بل أصبحت أيضًا مسألة سيادة على التراب". أنهت بريطانيا الثورة في 1939 من خلال الإعدامات والاغتيالات وتسليح الهاغاناه ومن خلال التحركات الدبلوماسية التي نشطت لتنفيذ قرار تقسيم فلسطين كبابٍ للحد من الهجرة العشوائية. (كان واضحًا أنها عملية دسّ السم في العسل.)
وفي المناسبة، هل تبدو الهبّة اليوم تكرارًا – فهل أوحى النص أعلاه بذلك؟ – لهباتٍ وثوراتٍ وإضراباتٍ قامت ثم وُئدت وبقي الاستعمار؟
[نضيف هنا صور اضراب 18 أيار 2021 والإقفال في الأسواق والمؤسسات وصور الاشتباكات في مدنٍ وأماكن عدّة من فلسطين وبعدها صور المقاطعة الاقتصادية لبضائع الاحتلال الإسرائيلي والكلام عن اقتصادٍ وطنيّ وفعاليات فلسطينية.]
لا نملك – نحن المدركون بأننا مستعمَرون – جوابًا قاطعًا ولكننا أبصرنا أنفسنا في الصور فجأة.
فغالبيّة الصّور التي تتناولنا اليوم قد صوّرها أهلها – موضوع الصورة - وتبدو فيها فلسطين محرَّرة. تبدو كأنّها تثبت تفصيلًا محدّدًا في صور 1929 و1936 وغيرها... كأنّها تنشر دليلًا قاطعًا للمرة الأولى. تبدو كأنّها تحمل من مئة عامٍ مضت تجارب عدّة في إفهام هذا الاستعمار أنّه خارج سياق هذه البلاد ويوميات السوق القديم وحركة الناس وأنه (الاستعمار) لا يعدو كونه عنصرًا بصريًا مركّبًا بواسطة "فوتوشوب" – إذ التقطته عدسات سكان البلاد - موضوع الصورة... تبدو كأنّها حاولت مع الاحتلال طرقًا شتّى فأبقت منها باختصار على ما هو مُجدٍ... تبدو كأنّها مستعدّة لإعادة كلامها وصياغته بألف طريقة.
كان يكفي أن نرى أنفسنا في صورة واحدة محرّرة لفلسطين لنتحقق من تاريخنا ونبدّد كل شكٍ انتابنا حول الجدوى.
الصورة: إضراب 18 أيار 2021 (صورة من تويتر)
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة