التضامن من النزعة إلى النزوة
رأينا، هنا، على بُعد بضع كيلومتراتٍ من المذبحة، في سبعة أشهر من القرن، تكثيفًا لم نره من قبل ولم نتعامل معه بعد. متضامنون من كلّ حدبٍ وصوبٍ ولغةٍ ومجالٍ وسياق يقبلون للإدلاء بدلوهم عن فلسطين والإبادة. لم نعرف هذا الكمّ والنوع من التضامن من قبل. وقد يكون الوقت لم يحن بعد للتفكير فيه وتفكيكه وفهم جذوره ومآلاته وجدواه أو قد يكون هذا التفكير قد تأخّر كثيرًا.
لكن، إذما نفضنا غبار البكّاءين والندّابين الكثيف من العالم ومن المنطقة العربية ومن قلب فلسطين أيضًا – يا للهول - على اعتبار فعلتهم لا تمتّ لكل مرادفات التضامن بأيّة صلةٍ مفاهميّة بل تذهب نحو أضاد الكلمة من التخاذل والتنافر، برز شكلان للتضامن غير مألوفين إن من ناحية الكمّ: التضامن كنزعة، أو من ناحية النوع: التضامن كنزوة.
في التضامن كنزعة، برزت أطياف مختلفة لدى أفرادٍ ومجموعاتٍ وتجمّعات وبكمِّ لم نعتده. نزعاتٌ معروفة ومألوفة نوعًا ولكنّ كمّها وكثافتها لافتة. منها النزعة الإنسانية التي هبّت للتضامن مع فكرة "أنسنة" الفلسطينيّ ورفض النظرة الاستعماريّة له كضحيّةٍ ضعيفةٍ مغلوبة على أمرها في الأيام الإبادة الصامتة وإرهابيّ أو عددٌ من أعداد من الضحايا في أيام الإبادة الصارخة. ومنها النزعة التاريخيّة التي ذهبت لفهم جذور استعمار فلسطين ودحض ادعاءات الصهيونيّة وبالتالي تعريف احتلال فلسطين من خلال تعريف المشروع الكولينيالي. ومنها النزعة التفكيكية التي انكبّت لفهم أساليب الاستعمار وبالتالي الدعوة لتفكيك أدواته وروايته. ومنها أيضًا النزعة الحقوقيّة التي دعت وعملت على عزل الكيان والدعوة لمحاسبته. ومنها النزعة الاقتصاديّة التي فتحت أبواب المقاطعة على مصراعيه.
قد يكون هناك نزعات أخرى فاتتنا. قد يكون هناك الكثير من التقاطعات بين النزعات أعلاه. ولا بد من إعادة اللفتة إلى كثافة هذا النوع بالتزامن مع الأشهر السبعة وإلى التساؤل حول سبب عدم كثافته من قبل بالرغم من استمرار أسبابه ومحرّكاته لقرنٍ كاملٍ.
أما الأبرز في هذه المرحلة هو ظهور ما يمكن أن نسمّيه "التضامن كنزوة"... لم ندرك مآلاته بعد ولا يمكن القول بأنّه كميّ ولكنّ نوعه ملفت للانتباه. النزوة، من ضمن معانيها الكثيرة وبما نعنيه هنا، هي الاندفاع السريع القوي والحدّة. بدأت أشكال هذا التضامن تبرز خلال الإبادة الحاليّة وبوتيرةٍ تجاريها في السرعة. فبالتوازي مع الأنسنة والتعمّق في تاريخ هذا الاستعمار وأحقيّة مقاومته والتفكير في تفكيكه ومقاطعته وعزله ومحاسبته الخ... تبرز بعض الطروحات التي تتضامن مع فلسطين لكي تحرّر نفسها، لكي تحرّرها فلسطين. أيّ أنها تعتبر تحرير فلسطين بابًا يفضي إلى تغيير وجه العالم ونظمه وترتيباته وهو أمرٌ ضروري لا بدّ منه لإنهاء فكرة الإبادة من أساسها. تتسّم هذه الطروحات باندفاعها وحدّتها مثلما تولد الأفكار الجديدة في لحظة الدمار الشامل. يكون عليها أن تندفع بشجاعةٍ وفطرة وأن تعتمد الحديّة والجذرية من أجل حماية نفسها ريثما يتمّ التفكير بها وتطويرها وبلورتها وإعطائها مساحاتٍ للنمو.
لا يعني ما تقدّم أي استهزاءٍ مقصودٍ بالمتضامنين عبر النزعات المختلفة. فأن تأتي متأخّرًا خيرٌ من ألا تأتي أبدًا... ولكن يجب التوضيح بأنّ هذا الخير هو لصاحبه، أي المتضامن نفسه. فالوقوف مع فلسطين والنزعة لها هو لصالح من يقوم به.
كما لا يعني ما تقدّم أنّ المتضامنين عبر نزواتهم سيعبرون. قد تكون النزوة قصيرة المدى فمن معاني النزوة أيضًا عدم الاستقرار على حال. وقد لا تصل إلى تحقيق مشروعٍ يحملها... ولكن لا بد من التفكير، سريعًا واندفاعًا وبحدّة، بأنّ لهذا التضامن أبوابٌ ستُفتح وبأنّ لها من الفرص ما يمكنها اقتناصه. فما يصدر عن المرء خلال معايشته الإبادة يطبعه ويكون ركنًا أساسيًا في ما يأتي بعده.
نزوة النظر إلى قطبٍ بمحاور محتملة
لننطلق من ثابتة: لا يمكن وصفنا بالمتضامنين. تعود "نا" الجمع هنا إلى أهل البلاد المستعمَرة.
لنذهب مع ثابتتنا هذه إلى وضعنا في قلب الإبادة. فجر السابع من أكتوبر، رمت غزّة نفسها بالنار. هذه ليست المرة الأولى التي تفعلها غزّة وليست المرة الأولى التي ترمي مدينة كنعانيّة نفسها بالنار. يكون هذا الوثب إلى النار دعوةً للتغيير وليس انتحارًا كما أدرجت النظرات الغريبة عنا في وصفنا. هذا – بيننا – دعوةٌ للتغيير على شكلٍ قاطعٍ لا عودة عنه مثل الوثب إلى النار. بعد سنواتٍ من اللف والدوران ومحاولات التهرّب من الوضوح، رمت غزّة نفسها بالنار ووضعتنا أمام ضرورة الإجابة على سؤالين أساسيين: هل نريد التحرير؟ وهل يضعنا ما نريده في محورٍ؟
أتى الجواب الفطريّ لكل مستعمَرٍ توّاقٍ لحريته بالإيجاب السريع على السؤال الأول. نعم. نريد التحرير. سهلة!
طيب... هل يضعنا ما نريده في محورٍ؟ ساد الصمت بيننا حتى ظهرنا فيما بيننا كمجرّد متضامنين متعاطفين (لنتذكّر بأنّ لا استهزاء بأي شكلٍ من أشكال التضامن وبأنّ البكّائين غير متضامنين أصلًا).
لنضع المحور في الصورة إذًا. هناك من سارع إلى اجتهادٍ وتجديدٍ بضمّ فصيل من فصائل المقاومة في غزّة إلى محورٍ راسخٍ و"شغّال" كما نقول بالدارجة الشاميّة من منطلقٍ نألفه كثيرًا هو "عفا الله عمّا مضى". تجاوز المحور القائم سريعًا اختلافاتٍ عميقةٍ فيما بينه وتناقضاتٍ مركّبّةٍ عزّزها العقد المنصرم ليجيب على السؤال الممهور بالدم والنار. أرسى هذا الضمّ وضوحًا ما لدى منتسبيه سهّل عليهم الإجابة على سؤال غزّة الثاني كما يلي: لا يضعنا ما نريده في محورٍ فقط بل أننا ضمّينا غزّة للمحور القائم.
وفي الوقت عينه، استمرّت عدم إجابة من هم خارج هذا المحور من مريدي التحرير. حيث اختلطت أفكارنا مع سنواتٍ من التهرّب وعدم عدّ العدّة للحظةٍ رأيناها قادمة لا شكّ ولكننا لم نستعدّ لها في الوقت عينه. ولكن هل يحتّم هذا التأخّر أو التقصير وجوب ضمّنا إلى المحور الذي أعدّ عدّته مقابل عدم تنازلنا عن أننا نريد التحرير؟
لنزيل المحور من قلب الصورة ولنستبدله بالقطب كي نستقي إجابتنا. يمكن النظر إلى قطبين في العالم اليوم (يسمّيهم الاستهلاك والاختزال الإعلامي الشديد بالمحورين خطأً). قطبٌ يدرك أنّ تحرير فلسطين وانهاء الاستعمار هو مسار ضروري لخلق احتمالاتٍ للبناء في مستقبلٍ ما أقلّ ظلمة (لاحظوا كمية الاحتمالات والمآلات). فلنسمّيه قطب التحرير. وقطبٌ يشدّ بكل قوته وعنجهيته وعنفه وبرقاب ملايين التابعين له لإعادة الرتابة بالتوحّش القائم (المعروف). فلنسمّيه قطب الاستعمار. ولكن، ما فاتنا ويفوتنا نحن المستعمَرين التوّاقين للتحرير أنّ في القطبين محاور مختلفة.. منها ما وُلد ومنها ما اختفى ومنها ما لديه الكثير من الفرص لينتج نفسه (مشروعه).
لنقل أنّ قطب التحرير يتشكّل من محاور عدّة كما هو حال قطب الاستعمار. يكون القطب ارتكازًا مستقطبًا وتشكّل المحاور فيه نقاط قوّة وظيفيّة أو نقاط ضعفٍ مثلًا.. تنسجم وتلتقي.. وتتباين في القطب عينه. يمرّ دون انتباه بسبب وصمة التقصير المزمن وراسخيّة المحور الواحد والضخّ الإعلامي حوله، أنّ دعوة غزّة للتغيير قد أفاقت رغباتٍ بالنزوة لمجموعاتٍ وأفرادٍ منا على امتداد البلاد المستعمَرة لتتشكّل في مجالاتٍ ومساحاتٍ عدّة محوريّة ضمن قطب التحرير. وهي لا زالت تتشكّل أي أنّها لا تمثّل قوّة بارزة ولكنّها لا شك تمثّل محاور مهمّة لاكتمال القطب. وقد يكون اللا انتباه المخيّم على هذه المحاور هي فرصتها للتشكّل المتين.
قد يكون من المهم التفكير حول علاقة هذه المحاور ببعضها البعض... قد يكون من غير المجدي مثلًا تدمير محاور أخرى في القطب عينه لكي يثبت كل محورٍ وجهته. وقد يكون من غير الضروري أن تبرّر المحاور وجودها في قطبٍ فيه محاور مختلفة عنها كما ليس ممكنًا لها السعي للتقرّب من قطب الاستعمار ومحاوره في وهم حفاظها على نفسها (من سترضي من خلال هذا التبرير والتقارب أصلًا؟). يكفيها العمل الجمعيّ للتشكّل الراسخ في مساحاتٍ "بعل" (طبيعيّة) ضمن مسار التحرير الضروري. ستُواجه هذه المحاور باختزالها بمحورٍ واحدٍ لإضعافها... وستكون عرضة للضم والفرز. ولكن لما لا.. هذه المواجهة نزوة تقوّي القطب بتنوّعه وتجعل من حديث المحور الواحد خطابًا غير واقعيّ. إذا كان علينا النظر للإبادة، فلنراها في سياق القطب.. هنا يجد كلٌ منا ما يمكنه فعله وهنا يصبح لدينا من الوضوح ما يكفي للإجابة على أسئلة غزّة التي رمت نفسها بالنار لتجعل كلّ هذا ممكنًا. نريد التحرير ونزوة الاحتمالات.
تكاليف النزوة، رحلة العالم مع "فري فري بالستاين"
في فيديو قصيرٍ متداولٍ لأطفالٍ في مظاهرةٍ تضامنيّة في دولةٍ ما، يلعب المذيع لعبة "أكمِل الجملة". يقول للأطفال: "فري فري" (free free). يرددون بعده: "باليستاين" (Palestine). ثم يسألهم: إذا كان هناك طفلٌ في غزّة يسمعكم الآن... ماذا تقولون له؟ تجهش طفلة بالبكاء بينما تقول أخرى، تصغرها سنًا: أقول لهم المساعدة في طريقها إليكم! (Help is on the way).
ربّما فهمت الطفلة الباكية العالم على حالته التنافرية الساحقة... كثرة البكّاءين والندّابين قد خذلتها باكرًا. وربّما وصفت الصغيرة أمنياتها البريئة لعالمٍ غير متخاذلٍ حيث لا يبكي الأطفال الصغار للأسباب عينها التي تُبكي الأكبر منهم سنًا. ولكن في فطرة جوابها التي قد تكون استقته من أفلام كرتونٍ وحكاياتٍ عن أبطالٍ ينقذون الأخيار من الأشرار، نزوةٌ واعدة. فلا يكفي أن يكون المتضامنُ مع فلسطين وضد الإبادة. بل عليه، إذا أراد أن يشكّل صوته المساعدة المنشودة، أن يكون في وقوفه مع فلسطين ضد أشياءٍ أخرى، لا تعدّ ولا تحصى. تبدأ من التضاد مع الإبادة كفعلٍ منهجيّ يتمحور حول التوحّش والابتزاز والاستنزاف وتمرّ برفض النظام العالميّ القائم على التخيير والترهيب بين محدوديّة العيش الفرديّ وغضّ الطرف عن الظلم أو القصاص من كل رافضِ للظلم... وصولًا إلى دخول النفق لابتداع عالمٍ جديدٍ. لا شكّ بأنّ "فري فري بالستاين"، فلسطين حرّة، هي ليست أمنية مفردة كما تمثّلها مختلف النزعات بل عملٌ جمعيٌّ يقوم على النزوة والخيال.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة