منذ ثلاث وعشرين عامًا، في غرفةٍ متداعية باردة، وقف أستاذ الأدب العربي في صف الثانوي بقميصه الحرير النبيذي وأعلن لطلابٍ بدأوا للتو بالاستماع إلى الراب اللبناني، بسذاجته يومها، أعني الراب ولا أعرف إذا كنتُ حقًا أعني الراب فقط، وقال: آلة لكشف الكذب.. هذا هو حل الإنسانية الوحيد. آلة نعرف أنها في كل مكان تمنعنا عن الكذب.
قد تكون سذاجة الراب منذ عشرين عامًا ليست وليدة صدفة. كان العالم ساذجًا يومها. عالمٌ يترقّب بخوفٍ شديدٍ مطلع الألفية. ظنّت الناس أنها لن ترى مغيب شمس يومه الأول. ظنّت أنها القيامة، بسذاجة. لكنها لم تكن تريد أن ترى النهاية.
عالمُ يومها كان هادئًا في الظاهر... كاذبًا في الظاهر أيضًا.
ربما قرأ أستاذ الأدب العربي مجلة العلم والمعرفة التي كانت تنشر مقالاتٍ عن "دراساتٍ بريطانية" حيث "يُجمِع العلماء" على أن داء السرطان سينتهي وبأن إشراقة الألفية ستكون باهرة إلى حدّ الإعماء. وقد وصف عالَم ما بعد الاستعمار بالعالم الجديد، البريق يزيّن آثاره، ترميم المدن القديمة فيه دليل عافية، واستسقاء الأرشيفات لم يكن يومها نعمة بل نقمة مهزومي الألفية السابقة… أي نحن.
ربما قرأ أيضًا الأستاذ إياه افتتاحية جريدة النهار واطّلع على حسن سير الأمور في لبنان، على استقرار سعر الصرف، على انتعاش الاقتصاد، على بعض الأضرار الجانبيّة هنا وهناك... كحصار العراق مثلًا. وربما تبنّى الفكرة في سرّه، وهو شاهدٌ على دخول دبابات ميلشيا لبنانية إلى حرم الثانوية في الثمانينات. يعرف الشعور جيدًا. ذاك الخوف الذي انتابه على حياته. على المنزل الذي أراد بناءه. على زوجته الأولى، وعشيقته الأبدية. يعرف ذاك الخوف الشبيه باقتراب المواجهة بين السيّدتين. بضرورة استمرار حياته كما هي، من دون اعتراض... بانتظار فكرته العظيمة بعد عشرين عامًا... آلة لكشف الكذب. كيف يريدها بصدقٍ وهي ستحطّم الهيكل على رأسه قبل غيره؟ قد يكون طرحه سذاجة... أم تذاكيًا على الزمن أم طلبَ غفران.
لم يخرج طالبًا من تلك الغرفة برأيٍ حول آلة كشف الكذب. لم ينبهر أحد بالفكرة أيضًا. خرجوا للاستماع إلى أغنية الراب... عكس السير. كانت تضجّ في صرح المدرسة بلا منافس. الكل يريد اتقان سرعة الكلام فيها... البعض يريد أيضًا شكلًا يشبهها. وآلة فحص الكذب، للأمانة، لم تكن إلّا عائقًا أمام هذا الاستحقاق. من يريد آلةً لفحص الكذب حقًا؟ آلةٌ نعرف بأنها في كل مكان تمنعنا عن الكذب. لا أحد يريد معرفة الحقيقة. ليس لأنها "بتجرح" بل لأنها غير مناسبة لسياق الألفية الجديد. تخيّلوا لو أننا في 2003 عرفنا أنّ حاكم المصرف يكذب. وأننا لم نكن اقتصادًا خدماتيًّا ناجحًا قط... أننا لم نكن نريد حل الإنسانية عمومًا... لم نكن قلقين فعلًا. فالقطب الآخر للخوف، في سير البشرية عمومًا، هو الحماية. والحماية هي ألّا نضطر لمواجهة الخوف بأنفسنا بل اللجوء لمن/لما سيواجهه عنا، مدركين أم لا، بأنها كذبة... والأسوأ أنها كذبة بثمن. من يريد الحقيقة في لحظةٍ كهذه؟
بعد عشرين عامًا، آلة كشف الكذب لم تُخترع. مفهومها عاجز وفكرتها قاصرة كعالمنا اليوم. لا يمكن أن يولد عالمٌ ساذجٌ عالمًا غير عاجز. وللأمانة، كلنا، وأستاذنا، لا نريد الحقيقة... أو على الأقل لا نعلم إذا كانت آلة تكشف الكذب، أو بالأحرى تقي منه، تؤدي إلى الحقيقة... ولا نعلم إذا كانت الحقيقة تعني الخلاص. يمكن أن تقول التعاليم الدينية والتيارات الفكرية عكس ذلك، وهي تقوله بالفعل، ولكن من منا استدلّ إلى الحقيقة ونجا؟ من منا يستطيع دفع ثمنها؟ من منا يريد الخلاص؟ كيف يمكن تخيّل عالم سعيد؟ وكيف يتّسق العالم السعيد مع ألفياتٍ حزينة سبقته... كيف نريد أن نبني سعادة على أوهام التاريخ؟ ومن أصلًا يمكنه أن يكتب قصةً أمتن من قصة الأديان؟ من يمكنه أن يحيي أمواتًا؟ ومن يريد من الأموات العودة إلى الحياة حقًا؟
ولكن بعد عشرين عامًا على الفكرة، وموت كاتبها وكتاب مجلات وجرائد مطلع الألفية أيضًا، وقرنٍ على دخول الآلة، أصبحت الآلة ذكية، كما الصواريخ، كما المراقبة... كما الكذب. لا نعرف إذا كان الكذب الذكي، ابن العالم العاجز، أقل سذاجة، وهو خلفه. ولكن لنتخيّل آلةً لكشف الكذب اليوم، تمنع الناس عنه، تقي البشرية شرّه... سيكون الخوف شديدًا وستكون الحماية أشدّ قسوة... إلى حدّ ضرورة ظهور دين جديد يتبع إلهًا رحيمًا خلف حاسوبه... يقرأ ويقول. ولكنه بين الحينة والأخرى، ينشر صورًا له من الجنة الواقعة فوق حقل نفطٍ جاف، ينشر تعاليم المحبة والخلاص بأن على مواطن الأرض، جوهرتها، أن يعطي ما للداتا للداتا وما للحقل للحقل. فالحق يُقال لا يمكن أن يصبح الكذب أذكى أكثر من نصٍ غير قابل للشرح.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة