ذات مظاهرةً من حراك الجزائر، سنة 2019، قال بيدو، وهو شابٌ ثلاثيني بهِيٌ وأصلع، خلال نقاشٍ مع رفاقه، قال باحتقار: "كل الأحزاب والمبادرات والشخصيات تكتبُ بياناتٍ تافهة.. تبدأها أو تختمها بنفس العبارة نحن نحيي الحراك." ثم أضاف: "من أين تحيي الحراك؟ من على الرصيف أو على الشرفة؟ كيف تفصل نفسك عن الحراك والشعب؟" يأخذُ نفسًا من سيجارته ثم يقول ساخرًا: "أو ربما أنت منفصلٌ عنهم أصلًا."
انتهى الحراك وجاءت الكورونا بحَجْريها: الصحي والسياسي. انكفأ بيدو وانكبّ على حياته البسيطة بين العمل والدار.. وأنستغرام. ترك فيسبوك الذي لم يستعمله يومًا لنشرِ أفكار كبرى، حتى أنه لم يفكر في فتح صفحته للعموم كي يشارك حسّه الفكاهي. ظل في أنستغرام يتابع – كأيّ واحدٍ من النّاس - صفحات الجميلات ويشجّع البارصا (فريق برشلونة) ويدعم حسابات المقدسيين التي تفضح ممارسات الاحتلال وتوثّق لحياة أهل القدس.
قال لي، وهو يقف خلفي يدخن بينما أنا جالسٌ أحضر قهوة، عندما رأيته في عزاء والدة صديق قديم: "أنا الآن أركّز مع أهل القدس، مذهلٌ كيف يتحوّل نضالٌ ضد المستعمر في أنّك تريد التنقّل من النقطة أ إلى النقطة ب، والمحتلّ يمنعك وأنت تتحايل على قوانينه وأسلحته."
وضع بيدو يديه ما بين كتفيّ ودلك تلك المنطقة بقوة، وعندما شعرتُ أن عُقدةً في العضلات انحلّت: "هذه الحركة تقضي على الأمس.. ونحن لا نريد شيئًا من هذه الدنيا سوى القضاء على الأمس."
بصراحة، من الصعب القضاء كُليًا على الأمس.. سواء كان تعبًا أم أرشيفًا أم فكرةً.
في تلك المظاهرات، سنة 2019، عادت للظهور جملةٌ هي بمثابة الأسطورة المؤسِّسَة منذ كتبت على الجدران سنة الاستقلال 1962: UN SEUL HERO, LE PEUPLE وترجمتها: بطلٌ واحد، الشعب.
كُتِب وقيلَ – حسب مصادر وشهود عيان - أن هذه العبارة كتبها رجال أحد قادة منطقة الجزائر العاصمة في الثورة وهو ياسَف سعدي (توفي ياسَف هذه السنة، وهو كاتب ومُنتج "معركة الجزائر" ويلعب دوره في الفيلم)، لماذا؟ حتى تُنفى الزعامة والبطولة عن الأشخاص وتُنسب إلى شعبٍ بكامله، في وقتٍ كان كل أمراء حرب التحرير يتنازعون منصب الزعامة.
هل نجحت الخطة؟ نسبِيًا، نعم. نستطيع القول أن الجزائريين وعبر حروبهم الأهلية المديدة في العقود الأخيرة، عرفوا كيف يصنعون شعبًا في أكثر من لحظة.. لكن في كل مرة كانوا يجابهون فيها "شيئًا ما" كانوا يسدّون على أنفسهم الطريق أيضًا. هذا لم أفهمه قبل 2019، فعلى جدران المدينة كتبوا من جديد "بطل واحدٌ، الشعب". استعادوا تميمة الأمس.. لكنها كانت بائسة، وشعرتُ أن الشعب ليس سوى بطلًا وحيدًا.. من الوِحدة والعزل.
بطلٌ معزول ووحيد مهما كبرُ وتحول هذا الكائن الخرافي.. وبطلٌ – ربما - في لعبةٍ لا يوجد ضمن قواعدها معيار البطولة. بطلٌ معزولٌ أيضًا باسمه، فكلمة الشعب هنا تُستعمل بسهولةٍ لا تستوقف سوى أذن الغريب.. فقد تعودنا هنا على تسمية الجموع والناس – والطبقات الهشة - وأي تجمّع بكلمة "الشعب".. ووُلدت في الثلاثينات، خلال الحركة الوطنية مع "حزب الشعب".. أي قبل أن يتشكل الشعبُ أصلًا، وكان مجموعةً من سكان المُستَعمرة الأصليين.. "الأنديجان" كما كانوا يُسمّون.. وعبر الحديد والنّار خاضوا رحلة التحول إلى "شعب".. لكن تلك قصةٌ أخرى.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة