يقول الروك مان الفقيد رشيد طه: "أنا أحتقر النوستالجيا، الملنكوليا أكثرُ نُبلًا. الملنكوليا هي غوغان والنوستالجيا هي هتلر".
أكبر حزب سياسي في العالم، الحزب الذي يملك أكبر قاعدة شعبية، هو حزب "بكري خير" أو بمصطلحات فصيحة: "من قبل كان أحسن". عابرٌ لكل الحدود والطبقات والديانات والهوّيات. جمهور عريض وطويل وقديم وأصيل هو جمهور هذا الحزب، يختصُّ بتغليف كل ما يتقادم وصبغه بصبغة جلال وكمال. فمن أمريكا التي أخفق ساحلها الغربي، بقيادة كاليفورنيا، المستقبلي في قيادتها نحو آفاق رحبة بعيدة عن الماضي الراكِد الذي يُثبّتها فيه الجنوب الأمريكي المحافظ - الترامبي المنتفخ بالهزائم وقُطن المزارع المصبوغ بدماء العبيد. من أمريكا أقول، إلى الجزائر، التي لا سواحل تقودها نحو المستقبل، والتي تغرق كل يوم وليلة بجسدها الضخم في محلول يجعلها مشلولة وأسيرة لحظة خارج الزمن.
لكنني لن أزعِج القارئ بشرح أحوال البلاد والعباد، أريد فقط أن أذكُر في هذا المقام - ولو باختصار مُضِرٍ رُبما بالموضوع ولكننا سنعود إليه في رحلات أخرى - أحد أعصاب هذا الشلل، وأكثرها أهمية ربما، ألا وهو آراء هذه الجماهير في موسيقى الرّاي التي تُلعب اليوم، ولنقل منذ عشرين عامًا.
يسودُ رأيٌ، عابرٌ للطبقات والأعمار والجنس، مفادُه أنّ الرّاي اليوم موسيقى ساقطة بل وميّتة، وبذيئة ولا فنّ فيها... عكس الرّاي القديم. ما هو الرّاي القديم؟ وما هو بالضبط الرّاي الجديد؟ لا أحد يعرف تماماً. هنالك فقط رأيٌ جامع يُقال في المجامع والجلسات الواقعية والافتراضية، يُفيدُ بأنّ الرّاي ميّت منذ زمن. ولكن أحداً لم يحضر جنازته.
كأنّه، وبعد صعود الرّاي للعالمية في التسعينات، وبعد دخول نجومه حظيرة مؤسسات صياغة الذوق الرسمي، ما عاد مُمكنِنا لآخرين من بعدهم أن يجتهدوا أو يُغنّوا. منذ بداية الألفية، نسمع ونقرأ أنّ الرّاي مات، وفقدَ بريقه وكلامه ولحنه. بل هناك حتى من انقلبَ على الشاب خالد بحُكم أنّ "الشاب خالد القديم أحسن من الشاب خالد الجديد". و"الشاب خالد الجديد الجديد أسوأ من الشاب خالد الجديد فقط". بمنطق، كلّما تقدّم الزمن صار الخمرُ أفضل.
مئات النجوم والنجمات الرايوية تبرقُ سماوات الكباريهات وغابات اليوتيوب، ولا عينٌ رأت ولا أذُن سمعت. ملايين المشاهدات لفيديوهات الأغاني الجديدة، وحضور كثيف لحفلات المغنيين، وصناعة كاملة تقوم بين الليل والنهار على أصوات الشبّان والشابّات، أغانٍ وكلمات تنطلق فاتِحةً طرقًا ومُدنًا من المعاني والمجازات والشعر الحي، دقّات وألحان مُرتجلة وأخرى مدروسة ترمي الموسيقى إلى بحار وبراري جديدة... بلا فائدة؛ فالرّاي ميّت.
لماذا؟ ربما لأن لا أحد يريد المراهنة على الحاضر، الجميع يُفضِّل المراهنة على ما مضى، على ما يأتي بضمانة، على ما أثبتَ دوامه وبقاءه ضدّ الزمن. الجميع يُشجّع الفريق المنتصر بعد نهاية المباراة، بعد الدقيقة التسعين، بعد معرفة النتيجة. لذلك لا أحد ينتبه للكرة وهي تضرب تقاطع العارضتين في الزاوية 90.
جمهور عريض يشتم وينتقد ويسمع في السّر أو الجهر مطربي الرّاي اليوم ويستمني على أفخاذ الشابّات السمينات والساعات الذهبية للشُبّان والشيوخ. الكل يشارك في الفوضى، لكن لا أحد يتراجع خطوتين إلى الوراء ليقول: هؤلاء – أشخاص مثل وردة الشارلومنتي وهشام سماتي والشاب بيلو والشيخ عبدو والفقيد الشيخ هواري منار وآخرون - هم من يطاردون روح العصر (التي يتصوّرها الجميع متعالية مثل ملاك، وليست ترقص في كباريه أو تسكُن جملة عرضة لمغني راب)، وهم من ينحتون أغانيهم وألحانها من زَبَدِ أيّام العصر، وهم من يُرابطون على خطوط الإبداع ويتلقون رصاص الملنكوليا وقنابل الوصم والتشهير والفضائح.
في بلدٍ مشلول بنوستالجيا غريبة إلى كل ما هو قديم وبارد ومُتَجاوَز ومُرَسْكَل، وحدهم مطربو الرّاي من يحاربون في الخطوط الأمامية ضدّ النوستالجيا الرديئة، وحدهم من يُبقون شعلة الملنكوليا متوهّجة، وحدهم من يعرفون بأنّ الرّاي لطالما كان "بذيئًا" وكذلك سيبقى دائمًا... وأنّ المسألة لم تتعلّق يومًا بهذا الأمر، بل هي بين من يريد التسجيل في الزاوية 90، وبين من ينتظر الدقيقة 90 – بعد نهاية اللعبة والسّحر - ليشجّع فريقًا من مدرّجات خاوية.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة