"أنا، من أنا؟". أنا إنسان خِزْيَويّ غير منخرط إلاّ بمشروع التفتيش عن لغة خاصّة بي، عن لسان هائج فلت من فمي فجأة، ألحق به ﻷردّه إلى حلقي الناشف من غضبي على حالي علّه يمسح كلّ هذا الخزي الّذي أصابني في جسدِ إنساني وروح إنسانيّتي المنسوفة المُنَفّسة. أنا أنموذج منفوخ للمثقّف المُقَرْيَف من كلامه المُنْتَفخ بضراط العبارات، والّذي بكلّ كلماته - ولاشتياقها للاشتقاق من البساطة وببساطة - لا بدّ له أن ينقرض ببساطة. أنا الموزة في مؤخّرة القرد، أنا مقروط بالسليقة ولا خلق لي للانخراط بأيّ مشروع فاكهة سياسيّة أو للالتزام بأيّ قضيّة خضار ثقافيّة غير لعنة اﻷكل من لغتي اﻷمّ الّتي حبلت بي بلعنة صراخ اﻷب للانوجاد في مأتم العبث الحيّ القائم من المجزرة. أنا لغتي ولغتي أنا. أنا ألعنها وهي تلعنني كلّ يوم وأنا أشتمها وهي تشتمني كلّ يوم دون نتيجة. أنا من دونها "تاريخ" حافل بجحافل من المسبّات المستحدثة على شرفي. أنا فيها ديموقراطيًّا وديموغرافيًّا "جغرافيا" لأساليب من القدح والذم والتقريظ مخصّصة خصّيصًا لموطئ لغتي اﻷمّ، أمّها على أمّي على أمّك، وحيّا اﻷمّة العربيّة لحضّها ولحثّها على القضاء دون رحمة ولو على خردة لأب الفكرة في دماغي اﻷجرش والّذي ما زال على حاله يحلم ويتوهّم بسلام مع أعصاب كلماته "الخوتاء". أنا وبكلمة واحدة، أنا صورة عن كلمة حمقاء تقاتل كي تؤمّن مكانًا ما لها في جملة حمقاء أكثر منها في نصّ يطوف بالخراء. أنا كما أنا، محشور في هراء تنكة جمجمتي المخزية، المتأسّفة على هيكلي العظميّ، يطرطق عظمة بعظمة على لغتي المفقودة كجسدي الميّت المستحي من حياته تُقتل أمامه ولا من سطر ليشفع. أنا على الهامش. أنا لا أفشخ ولا أفشّخ، أنا أستحي من الكرّ والفرّ من دون معنى، أنا أغار على الفاصلة ومنها، فاصلة، ها أنا ألغيها. نقطة. أهرب منها بكلمة أخرى تقتل ما قبلها وأتوجّه مع الكلمتين وبعدها نقطتين: اﻷولى نعيتها والثانية أغريها بدمي كي تكمل الرحلة في جنازة اﻷولى ولو بالغصب لكن بفخر الشهيد أعبر، أنتقل ﻷنقبر في نقطة الجملة اﻷخيرة الّتي لم تبدأ أصلًا، فاصلة، أنقتل هباء بكليّتي فيها لتعيش هي بأكملها على ظهري، تركبني وتتزحلط لغتي عليّ كي أقع أنا فيها على هذه النقطة. نقطة. نقطة دم الخزي. خذ الخزي دفعة واحدة. هات يابا!
أنا الخزيوي. انا نقطة الخزي. أنا تاريخ الخزي المكثّف في لغة الخزي. أنا رأس الحربة في حلق الصوت المخزي. أنا صوتي صوت الخزي الساطع. أبلعه إلى الداخل. أحشي دواخلي به بالخزي. أشويها على نار الخزي من هذا اﻷلم التاريخيّ المجانيّ. وها أنا أفتح اﻵن المزدوجين " أنا، من أنا؟ " أنا كالله أنا، أقفل المزدوجين على غضب وأسترسل. ها أنا أكمل وحيدًا كنبيّ مستشهد بإحالة حالة حاله إلى أقرب كهف ليربط جسده فيها بالجنازير وينتظر المجيء اﻷوّل والثاني والثالث والرابع وإلى ما هنالك من تعداد لشيفرات مخلّصين ولملائكة ولقدّيسين ولشياطين وﻷناس أقوى بطشًا بجسدها من جسد آلهة اﻷساطير. أنا خرافة أسطورة تنتظر شخصياتها في الواقع المرير. أنا من جيل ملاحم تلحيم المستودعات المملوءة بالمتفجرات بفروج العواصم العذريات المنفجرات بالبكاء والعويل وصرير اﻷسنان. أنا سدوم وعامورة لبنان الجديد. أنا ملح الدجل في جرح الكلمة العاقر. أنا عضو الذكر المنتصب على برج بابل اللغات أقذف بكلمات الكفر بوجه الله المذكّر، أذكّره بالحكاية، امرأة ورجل في الجنّة يا رجل، ما بك خرفت ولطشت المرأة بخرفك، بعثت لها بالأفعى والتفّاحة، جرّبتها أنت يا أخو الديانة كي تجرّب هي الرجل؟ خذ يا أخو أخت الرجل، خذ إجرام الحكاية من أوّلها وإلى آخرتها هي ذكر خرفان، خذ اللعنة أنت يا قضيب اﻷلوهة، يا خرف الزمان، ألف بابل تتحدّاك وأنت متعمشق بألوهيّة الذكر، خذ المؤنّث كلّه من اللغة قذيقة في كلمة الذكر، خذ الثورة عليك يا رجل، من أين ولدت يا ترى؟ من أين لك كلّ هذا الخزي في جسدي وفي دمي يا رجل؟ أنا رحم الخزي يا إنسان. أنا خزي الإنسان اﻷوّل واﻷخير. أنا اﻷلف. إيه ادحشها! أنا الياء. إيه تقيّأها. أنا تعبان منك يا الله ومن نسلك وفصلك. أنا أحبّك. أجل، أجل. أنا ولو أجلي بين يديك يا الله، أنا أقول لك يا رجل عبثًا تحاول يا حبّ، إيه والله يكفينا ويكفيك. أنا بخش العدم اﻷسود، أنا معادلات استقصائيّة في سجون الحقّ العام. أنا اﻷمن العامّ المنتحر الموقّع على خريطة خزي البلد اﻷوّل. أنا جيش منشطر غير منفطر إلّا على قتل المسكين المنقهر. أنا محكمة شرع أقصى وأدنى. أنا القاصي والداني من الشروق إلى الغروب. أنا أفق عمودي. أنا ولد يا أخي، يا أختاه، أنا ألعب بالكلّة فإذا باللعبة تصير حربًا. أنا اﻵخر أحارب نفسي قبل اﻵخر على أرضي. أنا كاﻵخر في حكاية الحرب اﻷهلية، أنا حكاية الخراب والخراء في حرب اﻵخرين على أرضي. أنا كائن أرضيّ وأرضي تشظّت في الفضاء. أنا أرضي اﻵن روحٌ لمرفأ هائم وبئر من دون ماء. أنا سماء مشعوطة يا ربّ. أنا أتضرّع إليك بلغم آت، أنا بعبوة أشكر لك الترحّم على حياتي، ها أنا أحلب لك تيس المعزاة في الجبل العنيد وأقدّم لك ذبيحة اليد الحديد. "أنا، من أنا؟". أنا الطور الدماغيّ الرحلويّ اﻷمثل. أنا على صفيحة الجهل ربيت وإلى صفيحة الجهل عائد. أنا محروقة أوراقي سلفًا. أنا لا أحسب ولا أجيد ضرب الاحتمالات. أنا مجلود بالمستحيل. أنا مصلوب برفع اﻷيدي على الحواجز في رأسي. أنا حاجز للخوف الوهميّ في رأسي. أنا جحش الدولة على سكّة قطار مفقود. أنا، أنا ها قد ولع بمضرطي الفتيل والدبير والفتين. أنا بزّ حليب النَوَر. أنا منه وإليه وبقلب أبيض سأملطه وسأشفطه وسأقشطه من زَبَده وزبدته ولن أترك لكم شيئًا للمصّ أو للعصّ أو ﻷيّ فصّ من البداية على هكذا آخرة. أنا مخصيّ الروح من اﻷزل. أنا أمتطي حروبي في شنتياني. أنا روث الحرب تحت الوسادة. أنا حلم البلد في القطن المدمّم. أنا ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة يا أيّها الحاج أنسي؟ أنا لن، أنا لن أنساك، أنا نسيتك من زمان. أنا مفعول لن قد فعلت بي أفعالًا لا تُفْتَعل. أنا مقتول يا إنسان. أنا حرب لبنان. أنا لبنان الحرب. أنا الفطيرة والشحم. أنا بغل الشموس. أنا حيط العدم. أنا داشر. أنا نافر. أنا سافل. أنا معجم الدجل والكفر والعهر. أنا أبيع البلد بحرف. أنا أبجديّة بتابوت. أنا تابوت اﻷبجديّة يا منطوق. أنا انفصام تامّ منجز. أنا إيجاز الحقد والقتل. أنا تاريخ من تاريخ. أنا طائر بلا ريش. أنا زاحف مجزريّ مجنزر. أنا لبنانيّ الصنع والمنشأ. أنا العنبر. أنا وقبل أن أَقتل أو أن أُقتل لا بدّ أن أنيك اللعلع.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة