"بنجامين زافنايا" شاعر من أصول أفرو-كاريبية ولد في جامايكا عام 1955. هاجرت عائلته إلى المملكة المتحدة عندما كان في السابعة من عمره. تفتّح وعيه على حياة مليئة بالبؤس والتناقضات. اعتنق الديانة الراستافارية وهو في سن الثامنة عشر. استطاع أن يفرض موهبته على المجتمع البريطاني من خلال الشِعر والموسيقى والمسرح. كان يعتمد في شِعره على الإيقاع اللّغوي النابع من خلفيته الثقافية. منحته جامعة "كامبريدج" جائزة الشعر لعام 1986 وسافر بقصائده إلى الاتحاد السوفييتي، تشيكوسلوفاكيا، كوبا، مصر، السودان، لبنان، الاْردن، جنوب افريقيا، وفلسطين. يعمل حالياً أستاذاً جامعياً في بريطانيا. حاز برنامجه الشعري على التلفزيون البريطاني جائزة بافتا في حزيران 2021.

في ريعان شبابه، كان زافانيا غارقاً في العديد من القضايا المحلية والعالمية كبريطاني أسود. فتناول التمييز الاجتماعي الذي كان يمارَس ضد الأفارقة في القارة والشّتات. لم يواظب على حضور دروس الشعر في المدرسة. هرب من الواقع المزيّف والتفت إلى واقِعه. كتب عن حياة الشعوب وقضاياها. حارب "الجبهة الوطنية" اليمينيّة وجابه الفقر والسّجن والعنصريّة بقلمه.

 في عام 1986، شاهد على قناة تلفزيونية أطفالَ ونساء وعجائز فلسطين يَقذفون الجنود الاسرائيليين بالحجارة، فتعزّز لديه الشعور بأن ما رآه يشبه نضال السود في جنوب إفريقيا ضد الأبارتايد. بدأ اهتمامه يأخذ شكلاً جديداً من التضامن مع القضية الفلسطينية. أصرّ على قراءة تاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني وعلى التحدّث إلى مثقّفين من فلسطين والشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليبدأ بعد ذلك رحلته انطلاقاً من أحياء شرق لندن المتوترة مروراً بمصر والأردن وتونس والسودان، ثم فلسطين ليكتب العديد من المقالات والقصائد، ولينظّم الندوات. نشر كتابًا وثّق فيه رحلته إلى فلسطين المحتلة، بعنوان "راستا في فلسطين" (Rasta Time in Palestine).

قبل ذهابه إلى فلسطين متخفياً في مظهر السائح، كان يقول للنخب الثقافية العربية في لندن بأنه مصرّ على الموضوعية وعلى عدم التأثر بوجهة نظر واحدة. ولكن عندما عاد من رحلته قال بوضوح أنه يتمنى أن يحمل السلاح ويحارب الكيان الصهيوني، فما شاهده خلال رحلته أثبت له أن لا مكان للموضوعية وتبادل الآراء ووجهات النظر في ظلّ دولة عنصرية كإسرائيل.

عام 1987، أي قبل أشهر من الانتفاضة الأولى التي اندلعت في ديسمبر من ذلك العام، وصل زافانيا إلى فلسطين المحتلة. أول مشاهدة له لخّصها في عبارة قالها له جندي إسرائيلي فور وصوله إلى الأرض المحتلّة: "إنهم أناس قذرون، بيوتهم قذرة، حيواناتهم قذرة، أجسادهم قذرة، لا تثق بهم لأنهم سوف يستولون على أي شيء تملكه!" تابع زافانيا مسيره وأجرى اتصالاً مع الدّليل المكلف بالترجمة وتسهيل تنقّله. فوراً وقف الدّليل على أحد الأرصفة وطلب من المشاة غرفة أو مكانًا لإقامة ضيف، فتأمّنت الغرفة فوراً ورفض صاحب البيت الفلسطيني عرض بنجامين دفع المال بدل الإيجار. 

كان لكل فلسطيني قابله زافانيا قصّةٌ يرويها. يقول زافانيا: "كل فلسطيني يصرخ لكي يوصل صوته إلى العالم ولكن لا أحد يسمعه. ومع ذلك، فهم أناس كرماء ولطفاء،  يسمعون الجميع بمودة شديدة، قلوبهم وضمائرهم مفتوحة ولكنهم مستعدون للقتال أيضاً." يضيف زافانيا ملخّصاً تجربته مع الفلسطينيين: "علّموني الكثير… هؤلاء الناس يصنعون مثالاً لباقي شعوب العالم."

كل إسرائيلي هو جنديّ وعنصري

فهم زافانيا لاحقاً أن كل مواطن إسرائيلي هو جندي، حتى لو لم يكن يرتدي بزّة عسكرية. كان مشهد الإسرائيليين، وهم يتبضعون ويستمتعون بوقتهم، نساءً ورجالًا، والبنادق على أكتافهم، من أغرب ما شاهده. حينها بدأ يفهم طبيعة الحياة تحت الاحتلال وصار يخفض صوته عند الكلام، ويخبّئ آلة التصوير خوفاً من أن يعامل كما يُعامَل الفلسطيني. 

كان من المستحيل أن يسير  في الشوارع التي يسيطر عليها الإسرائيليون، على عكس المناطق ذات الأكثرية الفلسطينية. تجربة زافانيا لم تكن محصورة بطبيعة رحلته، بل تعرّض لتمييز مزدوج لكونه صاحب بشرة سوداء. يقول زافانيا أن بعض الجنود قرروا أن يتسلّوا بالبصق على وجهه ومناداته بالزنجي المنبوذ. لكنه وقف صامداً لعلمه أن كل ما كان عليه فعله هو إشهار جواز سفره البريطاني في وجههم في التوقيت الصحيح. فهؤلاء الجنود العنصريون تلقوا أوامر بأن يتصرّفوا بودّ ولياقة مع السيّاح الصحفيين الأميركيين والأوروبيين. ومع ذلك، كان زافانيا يسخر من الجنود الذين كانوا يقضون وقت فراغهم بالاستماع إلى الموسيقى العربية والأغاني الفلسطينية وموسيقى الهيب هوب والريغي.

من كتاب Rasta time in Palestine


إضراب الانتفاضة الأولى والعبور إلى غزة

"كان عَليّ أن أستيقظ باكراً هذا الصباح لأتمكن من العبور إلى غزة. الإضراب العام يبدأ الساعة 12 ظهراً. كل الفلسطينيين، سيشاركون في الإضراب، حتّى عرب الـ 48". يوثّق زافانيا مشاهداته خلال محاولته الدخول إلى غزّة. الجنود الإسرائيليون المدجّجون بالأسلحة ينتشرون في الشوارع والأزقة. الجو مشحون ومتوتّر. يركب زافانيا سيارة الأجرة ويستمع إلى حديث خمسة فلسطينيين حول الإضراب والعمل الثوري. على أثير راديو بي بي سي البريطانية خبر يفيد بمقتل طفل فلسطيني وإصابة العشرات. فُرض حظر التجول وكل الطرق المؤدية إلى غزة أغلقت. لا أحد يستطيع الدخول أو المغادرة. على الحاجز الإسرائيلي، يصرخ جندي شاب في وجه زافانيا: "ما الذي تفعله في فلسطين؟ لماذا تريد الذهاب إلى غزة؟". سُمح لزافانيا بالعبور وإكمال طريقه سيراً على الأقدام، فيما أُمِرَ باقي الركاب بالعودة. يقول زافانيا أنه لم يصدق ما شاهده في غزّة: الأسوار الضخمة، الأسلحة المدججة، الكلاب البوليسية، مستشفى الشفاء: في غزة شاهدت أصعب المناظر في حياتي، كان هناك طبيبان فقط يعملان دون توقّف منذ 3 أيام. شاهدت الجرحى والمصابين والرصاص المنثور في أجسادهم، شاهدت الأعضاء البشرية المبتورة… إلا أن الجرحى كانوا متشوّقين لسرد قصصهم لي قبل العودة مجدداً إلى ميدان الكفاح."

"أبيات وداع الأرض المحتلة"

"كتبت هذه الأبيات وأنا على سلّم الطائرة أستعدّ لمغادرة الأراضي المحتلة"؛

كإفريقي ذهبتُ إلى فلسطين.

وتِهتُ في الضفّة الغربيّة.

وكإفريقي فلسطينُ تعنيني.

كإفريقي رقصت على دقّات طبول نيكاراغوا.

كإفريقي لم أحتفل بمرور مائتي عام على قيام أستراليا.

كإفريقي ضربتني رصاصة بلاستيكية في شمال إيرلندا.

كإفريقي كنت امرأة في عالم الرجال

وذُبابة على سور الصين العظيم

وعامل منجم في ويلز

وهيبيّاً مؤمنًا بالسلام

وطفلاً لاجئًا

وفلاحًا أو طفلًا لَقيطًا.

كنت كل ذلك وما زلت إفريقيًا يتمنّى أن تتحرر فلسطين.

الصورة: جنود الإحتلال وأبطال الإنتفاضة في مخيم الشاطئ (1988) - من كتاب Rasta time in Palestine

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button