الكاتب في كل الأحوال، مُطالَب بأن يكرّس إبداعه، كيفما كانت وسيلته التعبيرية ليكون انعكاسًا لضرورات المرحلة. وهو مطالب في نفس الوقت بأن يعطي قومه صورة واضحة المعالم عن المستقبل كما يتصوره.
في الآونة الأخيرة، انتشر بعض الأقاويل والتصريحات التي تشير إلى أن ثمّة حيف يطاول الكتّاب الأفارقة بخصوص جائزة نوبل، وبالأخص بعد استبعاد المفكر والروائي الكيني نغوغي واثيونغو مرات عدّة عن نيل الجائزة. أكاديميون ومثقفون كثر يحيلون الأمر، بشكل مجرد، إلى ظلم وإجحاف نابعين من اعتبارات للمعايير الجغرافية، بصورة منفردة ومتفرقة من دون إعطاء السبب ما يستحقه من درس وتمحيص وتعمق. اللجنة التشريحية لنوبل أغلبها مُعرّض للبراغماتية أو للابتزاز، وبكل بساطة، هم لن يعطوا الجائزة لكاتب مثل نْغوغي واثيونغو لديه موقف واضح من الغزو الثقافي الأجنبي. ودفعه هذا الموقف إلى خلق نهج جديد للأدب في أفريقيا. نهج قادر على خلق وعي بِدَور كل من الكاتب والقارئ في مواجهة هذا الغزو الدخيل، ومحاربته، وكشفه. الغزو الثقافي من وجهة نظر نْغوغي هو صنيع الإمبريالية والاستعمار الجديد والصهيونية. وهذا الغزو موجّه بالدرجة الأولى إلى دول العالم الثالث، من خلال المؤسسات الصحافية والإذاعية والسينمائية ودور النشر والجمعيات والمؤسسات الثقافية التابعة للمخططين لهذا الغزو.
اليوم وبعد ثلاثة عقود على الانفتاح الاقتصادي في معظم دول العالم الثالث، نرى تآكلًا سريعًا فى قاعدة استقلال المثقف، وتنامي اعتماده، بخطى متسارعة، على المؤسسة التي تفرض عليه نهج الكاتب التابع الذي يطبّع مع الغزو الثقافي بعيدًا عن تفكيك الأبعاد النيوكولونيالية التي تتربص ببلدان العالم الثالث. أما نْغوغي، فحرص منذ بداية عهده بالكتابة، على أن يكتب للقارئ الأفريقي. ولم يكن يهمه الكتابة لناشر يبحث عن أشياء غريبة ومثيرة للقارئ الغربي. ولأن هذا الكاتب الأصيل شغَلته قضاياه وصراعات قومه وشغله الإنسان في أفريقيا، تمسك بمواقفه وكرّس للقارئ الأفريقي قلمه وفكره. ومُنح "جائزة لوتس للأدب الافروأسيوي - 1973" تكريمًا لشخصه وتقديرًا لإبداعه الأدبي. يقول نْغوغي إن أي جائزة تقدَم له من العالم الثالث قيمتها أكبر من جائزة نوبل. فعندما أخطره المكتب الدائم للكتاب الأفريقيين والأسيويين بمنحه الجائزة، كتب يقول :"لم أكن أتصوّر أبداً أن كتاباتي المتواضعة، سوف تلفت النظر وتشد الانتباه، إلى حد يجعلني أهلًا للحصول على هذه الجائزة العظيمة."
في 1973 وأثناء لقاء صحافي، وُجه إليه سؤال عن الكيفية أو الأدوات التي يجب أن يستخدمها المثقف/ة الأفريقي/ة، فقال نْغوغي: "إن الشعوب الأفريقية تمر بمراحل متفاوتة في التطور. بعض الشعوب ما زال يرزح تحت الحكم الاستعماري البغيض. وبعضها الآخر يناضل من أجل استكمال التحرر الوطني. وبعضها الثالث حصل على الإستقلال، وبدأ يناضل من أجل إعادة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي. أنا أفضل عدم استخدام كلمة "مثقف". أشعر أنها تحمل نوعًا من الاستعلاء والتمييز، أفضّل استخدام "كاتب"، وهكذا فإن الكاتب يختلف من بلد إلى بلد، وفق المرحلة التي يجتازها بلده. ولكن الكاتب في كل الأحوال، مُطالَب بأن يكرّس إبداعه، كيفما كانت وسيلته التعبيرية ليكون انعكاسًا لضرورات المرحلة. وهو مطالب في نفس الوقت بأن يعطي قومه صورة واضحة المعالم عن المستقبل كما يتصوره."
ولهذا عندما كان يترأس اللجنة الثقافية بالمؤتمر الخامس للكتاب الافروأسيوي، كان يطالب دوماً مثقفي القارّتين، بأن يُنشئوا على الفور دار نشر افرواسيوية متّحدة، تتولى ترجمة ونشر أعمال مختارة من التراث الإفريقي والآسيوي، لكي تتيح هذه الدار الآداب التقدمية من كل أنحاء العالم للقراء في بلدان أفريقيا وآسيا.
بعد فترة وجيزة من استقلال بلده، استطاع نْغوغي أن يصف الثورة من دون أن يحاول إضفاء صبغة رومانسية أو شعبوية قومية عليها، مثلما فعلت غالبية مثقفي جيل الستينيات. روايته الأولي "لا تبك يا طفلي" كتبها أثناء دراسته بجامعة "ماكيرير" في "كمبالا". وهي أول رواية تصدر باللغة الإنكليزية لأي من كتّاب شرق أفريقيا. وحصدت جائزة في مهرجان داكار للفنون السوداء عام 1966، وجائزة ثانية من المكتب الأدبي لشرق أفريقيا. وتدور أحداثها في فترة ثورة "الماو ماو" في كينيا. وتعرض مشاكل تختلف عن تلك التي يعالجها كُتّاب غرب أفريقيا وجنوب أفريقيا. فهو يسلط الضوء على المشاكل التي ظهرت في فترة الانتقال القومي التي تحتّم على المجتمع القبلي في كينيا أن يتعرض لها ولما يصاحبها من تغيّرات.
وتمسّ الرواية بجوانب عديدة من الحياة الأفريقية المعاصرة في كينيا وفي دول أفريقية أخرى، بالأخص الوعي القبلي أو المذهبي الذي يؤثر على التفاصيل الدقيقة للسلوك اليومي للإنسان الأفريقي والذي يضع في مواجهة صدام نفسي بين كل ما هو محلي وأوروبي، وبين كل ما هو وثني ومسيحي، وبين البدائية والعصرية. وهكذا، عبّر نْغوغي عن إيمانه بأن صراع الإنسان الإفريقي هو أيضاً بين تقاليد القبيلة وبين متطلبات المجتمع الحديث.
وحرّض نْغوغي منذ أن بدأ يكتب، على معالجة قضايا شعبه الملحّة، وموقفه من تراث الماضي ومعركة المستقبل، وحرص على أن يرسم دائمًا صورة واقعية لهذا الصراع. ولذا، كان يختلف عن كثيرين من أدباء جيله من الأفارقة. فالكاتب الأفريقي قبل الستينيات قد بدأ يؤلف لقراء غير أفارقة. أو بمعني أدق، بدأ يكتب لناشرين يبحثون عن مواضيع غريبة مثيرة للقراء الغربيين. لكن نْغوغي كان منذ البداية مؤمنًا بأن مستقبل الكتابة الأفريقية يكمن في موضوعات ما بعد الإستقلال. وكان هو واحد من القلة التي برزت أعمالها في هذا المجال. فاتّجه بكل إخلاص الى دمج الأدب الواقعي بعلم الاجتماع ليصور سيرورة الصراعات، بين المدينة والقرية، بين الأغنياء والفقراء، وبين الأقليات المضطهدة والأكثرية، وبين الدين والخرافة، إضافة إلى الصراع داخل المجتمع القبلي الذي اهتزّ بسبب التطورات الاجتماعية الجديدة.
سيجد من يطّلع على مجمل أعمال نْغوغي بعضًا من ملامح شخصيته الثورية، منذ ولادته في 5 كانون الثاني/يناير 1938 في "ليمورو" بالإقليم الأوسط قرب "نيروبي" عاصمة كينيا. نشأ في أسرة تضم العديد من الأخوة والأخوات لأب يهوى تعدد الزوجات. وفي السادسة من عمره، أرسلته أمه إلى إحدى إرساليات التبشير. وفي العام التالي أرسلته إلى مدرسة "كيكويو" في مدينة "كارينغا" حيث انتظم في الدراسة والتعليم حتى 1955، باستثناء فترة بين عامي 1948 – 1950 عندما توقفت الدراسة في أنحاء كينيا مع اندلاع ثورة "الماو ماو" ضد المستعمر البريطاني. وفي 1955 التحق بمدرسة "الياتس" العليا ثم في 1959 التحق بجامعة "ماكيرير" في "كمبالا" عاصمة أوغندا. وخلال تلك الفترة كان نْغوغي يعمل محررًا في مجلة "بن بوينت" ومجلة "زوكا"، وهما مجلّتان أدبيّتان تصدران في نيروبي. بعد تخرجه من الجامعة في 1964، عمل في جريدة يومية تصدر في نيروبي. استمر فيها بضعة شهور، وبعدها سافر إلى بريطانيا ليستكمل دراسته العليا بجامعة "ليدز". وفي 1967، عاد إلى وطنه ليعمل محاضرًا متخصصًا في اللغة الإنكليزية بجامعة نيروبي. وفي يناير 1969، أضرب طلبة الجامعة وقدّم نْغوغي استقالته من الجامعة احتجاجًا على الإجراءات العنيفة التي اتخذتها السلطات لقمع الطلاب. وفي 1970، سافر ليعين أستاذًا زائرًا بجامعة "نورث ويسترن" في "إيفانستون" بولاية إلينوي الأميركية، ثم أستاذًا للأدب المقارِن ولدراسات الأداء في جامعة نيويورك، ومديرًا للمركز الدولي للكتابة والترجمة بجامعة كاليفورنيا.
نْغوغي واثيونغو، الذي كان يعرف باسم "جيمس" تخلّى نهائياً عن إسمه الأوروبي، وهو يدعو جميع الناس أن يكتبوا إليه ويتحدثون إليه باسمه الأفريقي.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة