في شهر يناير 2024، أحالت دولة جنوب أفريقيا إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق فيها بتهمة ارتكاب جرائم حرب خلال عدوانها على غزة بعد السابع من أكتوبر، وهي الفترة التي قتل فيها الجيش الإسرائيلي أكثر من 20 ألف فلسطينياً. وفي مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) الذي عُقد في دولة الإمارات، قال رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوسا في خطابه أن "جنوب أفريقيا تشعر بالفزع من المأساة القاسية الجارية في غزة. إن الحرب ضد الشعب الفلسطيني هي جريمة حرب يجب أن تنتهي الآن". وجنوب أفريقيا من أوائل الدول التي دعت إلى تصنيف إسرائيل رسمياً كدولة فصل عنصري، ومن أبرز مواقفها نداء الأسقُف الجنوب أفريقي الحائز على جائزة نوبل للسلام دزموند توتو حين شبّه نظام الفصل العنصري في بلده بما يمارسه الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين معتبراً أنه "إذا انتهى الفصل العنصري (في جنوب أفريقيا)، سينتهي الاحتلال (في فلسطين) أيضًا، لكن القوة الأخلاقية والضغوط الدولية يجب أن تكون حازمة بنفس المقدار."
إذاً، المواقف الرسمية والشعبية التي اتخذتها جنوب أفريقيا نابعة من جذور ممتدة في تاريخها وليست مجرّد لحظة تضامن عابرة. فشعب جنوب أفريقيا يتذكر جيداً كيف دعم الكيان الصهيونى نظام الأبارتيد بالسلاح، وكيف أنه أثناء سنوات الحصار والعزلة في بريتوريا، حتى عندما وقف العالم ضد سياسات الفصل العنصري، قام الكيان الصهيوني بتطوير تكنولوجيا الصواريخ النووية مع الفاشية البيضاء الاستعمارية في جنوب أفريقيا مقابل تزويده بالمواد الخام.
ولكن ما يجمع بين جنوب أفريقيا وفلسطين يتخطى العناوين ويشمل الوسائل والسياسات والتكتيكات والحيل نفسها التي تبناها النظام الأوروبي في جنوب أفريقيا والصهيوني في فلسطين.
جنوب أفريقيا
القاسم المشترك بين الفاشية البيضاء في أفريقيا الجنوبية والصهاينة في فلسطين يتلخّص في عملية النهب الممنهجة وحيازة الأراضي واستغلال الشعوب الأصلية في أرض أفريقيا وفلسطين. بالنسبة للمستعمر الأوروبي، كان وضع اليد على الأرض سهلاً. لم تكن القبائل الأفريقية تعرف الملكية الخاصة بمعناها الأوروبي، وكانت نظرتهم الى هؤلاء الأجانب وهم ينزلون من المراكب ويستوطنون الأراضي نظرة خالية من الحقد والكراهية. حتى جاء اليوم الذي توضّحت فيه نوايا وأهداف البيض: دحر وسحق أهل الأرض وفرض نير العبودية عليهم ومصادرة أراضيهم. عندها هبّ الأفارقة للمقاومة وكانت حرباً شعواء شنّها البيض ضد "الزولو" على وجه الخصوص، وظلّت الحرب مشتعلة حتى نهاية عام 1879. والزولو هم إحدى قوميات أفريقيا الجنوبية، يتكلّمون "البانتو" وهي لغة سكان القارة جنوب خط الاستواء، تتفرّع منها لغات ولهجات محلية. وكان لتأسيس "اتحاد جنوب أفريقيا" على يد المستوطنين الأوروبيين دور محوري أتاح لهم "إضفاء المشروعية" على الإجراءات العرقية التي أصبحت حينها أمراً واقعاً.
في ،1913 أعلن رسمياً the native land act الذي حدّد رسمياً مناطق الاستيلاء والتملّك (مناطق عقارية استولى عليها وتملّكها النظام الاستعماري الأبيض وأدارها جهاز سلطوي فاشي مركزي). ومناطق التملّك الأفريقية شملت 7% من مجموع الأراضي وتوسعت حتى 13.7% فى 1932. ثم توقفت عند هذا الحد فى برنامج حكومة جنوب أفريقيا وكانت نسبة سكانها 70% من مجموع سكان البلاد. ومع هذه التطورات أصبح النظام وجهازه أكثر تشددا وتصلبًا مع وصول "القوميين البيض" على رأس السلطة في 1948 متخذا اتجاهين رئيسيين:
1- الإبعاد أو "النفي المنظّم" للسكان "السود" الى منازل فى أراضي الدولة ذات الطبيعة القبلية. وشمل هذا الإجراء أولاً "القوى غير العاملة، غير المنتجة" أو "غير المرغوب فيهم". وطبّق هذا الإجراء عملياً بشكل غير إنساني إلى حد أثار حفيظة بعض البرلمانيين البيض. وفي 1968، عرض نائب وزير شؤون البانتو ملاحظة أكد فيها أن أربعة ملايين أفريقي يعيشون فى "اقليم البيض"، مليونان فقط منهم ذوو فاعلية اقتصادية.
2- ممارسة التفرقة العنصرية الصارمة على جماعات "أولاد البلد" القاطنين في المدن وفى الأقاليم الموصوفة "بالبيضاء". ولم يكن الهدف فصل البيض عن غير البيض فحسب، بل أيضًا التفرقة بين غير البيض أنفسهم. وهكذا اقتلع الاستعمار بالقوة آلاف العائلات من جذورها ومن مسقط رأسها حيث كانت جميع وسائل بقائها.
برنامج التفرقة هذا نُفّذ واستمر العمل به عبر التنظيم والتسيير والخطر وأشكال تحديد وتقييد حقوق الإقامة والتنقل الخاص بالأفريقي/ية.. وشعار هذه العبودية كان العبارة المنمّقة "pass" التي كان على أبناء البلاد حملها دوماً.
وحتى 1960 - تاريخ مذبحة "شاربفيل" - لم يكن الافريقيون مسلوبي الحقوق فى مجمل مناطقهم فحسب، بل كانوا كذلك أيضًا أولئك المقيمين في مناطق الاستيلاء والتملّك. وإزاء تصاعد الشجب والرفض الدوليين لسياسة الابارتيد، لجأ رئيس الوزراء "فيرويرد" لمواجهة النقمة، إلى "المصادقة" على إعطاء تلك المناطق نوعاً من الحكم الذاتي الداخلي، معلناً إمكانية تحولها يوماً ما إلى "دول منفصل بعضها عن بعض." وقال حرفياً: "ليس هذا هو الحل الذي نرتضيه، لكنْ، نظراً للضغوط التي تمارس على جنوب أفريقيا لم يعد من مجال للشك في أن الأمور ستصل الي هناك (حريّة الأفارقة). وستكون تلك هي وسيلة للإنسان الأبيض لشراء الحرية وحقّه في السيطرة على البلد".
مع تصاعد الكفاح المسلّح اضطر رئيس الوزراء "فورستر" إلى إنشاء "مجالس تشريعية" تظهر وكأنها تمثّل مختلف الجماعات القبلية من دون أية استشارة من السكان المعنيين. قُدّم هذا المشروع إلى الأمم المتحدة على أنه "شكل من أشكال حق تقرير المصير للأفريقيين". وكان يأمل من وراء هذه المناورة "نزع الفتيل" وتحاشي تفجّر المعارضة الدولية وإحداث حالة شقاق وانقسامات داخل البلدان الإفريقية (حول مسألة الاعتراف بهذه الدولة المزعومة)، وبالتالي حرمان الأفارقة نهائياً من القاعدة الشرعية لمطالبتهم بحق السيادة السياسية في بلدهم - البلد الذي سيكونون فيه من الآن وصاعداً رسمياً فيه غرباء.
الكيان الصهيوني
بعد مؤتمر باسل في 1901، أرست المنظمة الصهيونية العالمية فكرة احتلال فلسطين وإقامة كيان صهيوني كهدف لها، وكُلّف الصندوق القومي اليهودي بدور الإستيلاء وامتلاك الأراضي فى فلسطين بمختلف الوسائل لتصبح ملكاً للغزاة اليهود. ولا يسمح ببيعها أو نقلها أو وهبها أو التصرف بها بعد ذلك. وللمستعمرين الأوروبيين فيها حقّ التنعم والاستمتاع بموجب بدل إيجار قابل للتوريث. واشترط المالكون الجدد التعهد باستخدام اليد العاملة اليهودية فقط.
وبانتظار الشرعنة التي منحها وعد بلفور للحركة، نشطَ الصندوق القومي اليهودي في إنشاء المؤسسات السياسية والأجهزة المالية والاقتصادية لتأمين الكوادر والدعم للمشروع. وفي 1947، بلغت حيازة الصندوق القومي اليهودي 928000 دونم؟ أي سبع مجموع أراضي فلسطين. وخُصص جانب كبير منها للمهاجرين المرتقبين. وأعطى مشروع التقسيم في 1947 الاحتلال الصهيوني القاعدة الأولى "لمشروعية مشروعه". وحالما أعلنت انكلترا نيتها الانسحاب من فلسطين، شرعت العصابات الصهيونية (وقد نشأت برعاية ودعم الدولة المنتدبة) في استخدام كل ما تملك من وسائل وقوة لنهب أراضي الشعب الفلسطيني، ثم توسيعها وتفريغها من أصحابها وسكانها العرب سواء بالحرب أو بالإرهاب (وكانت دير ياسين النموذج) أو بالعمليات العسكرية الهجومية التي استكملت قرار منع وحظر عودة اللاجئين العرب إلى ديارهم.
في 1948، تبع هذا المشروع المزدوج مجموعة إجراءات انطلاقاً من التنظيمات الموروثة من زمن الانتداب البريطاني، تمليها الحكومة الإسرائيلية نفسها، نذكر منها: تنظيم أوامر نزع الملكية والاستملاك باسم الصالح العام والهدف كان، في الواقع، نقل ملكية الأرض الى المحتلين اليهود؛ تنظيم أوامر "المناطق المحظورة"، الأمر الذي سمح بعد إفراغ المناطق من سكانها حيازة أراضي عشرات القرى والاستيلاء عليها؛ تنظيم أوامر خاصة بالأراضي البور والموات أو المملوكة على الشيوع والتذرع بالأوامر إياها كأداة قانونية تبرر احتلال القرى المتروكة بسبب إعلانها مناطق محظورة. قانون "الغائبين - الحاضرين" الذي أتاح نزع ملكية عشرات آلاف الأشخاص الذين لمجرد كونهم يقيمون ويسكنون داخل "إرث إسرائيل" يعتبرون غائبين - مئات المستعمرات الزراعية أنشئت بين 1948 و1953 على هذه الأراضي المصادرة.
استؤنفت عمليات السلب والتشليح هذه بعد أن دخلت مرحلة "تباطؤ" منذ إلغاء حكومة العسكريين في 1966. وظهرت أساليب جديدة إطارها "تهويد الجليل" لمواجهة التهديد الديموغرافي والنفوذ السياسي المتنامي للسكان العرب في المنطقة الجليل.
إلا أن المشروع الاستعماري الصهيوني اتخذ بعداً جديداً بعد حرب 1967، مع احتلال أراض عربية جديدة اعتبرها الصهاينة جزءاً لا يتجزأ من أرضهم، فنمَت وتضاعفت سياسة "الأمر الواقع" بتبريرات دينيّة وأمنيّة، وبالتزامن مع تأسيس المزيد من المستعمرات التي لم تكن سوى ثكنات عسكرية أنشئت لغرض تثبيت استيلائهم عليها مستقبلاً.
اليد العاملة الأفريقية والفلسطينية
إجراءات سلب الحقوق والأراضي والتمييز العنصري وتقييد حقوق الإقامة والتنقل حوّلت جميع من صُنفوا أفريقيين أو عربًا إلى "بروليتاريا" لا يملكون سوى أن يبيعوا قوة عملهم بأبخس الأسعار وأقل الأجور في المؤسسات الاقتصادية للبيض في جنوب أفريقيا والإسرائيليين في فلسطين.
وفي الحالتين، خضعت هذه اليد العاملة نفسها للنهب المنظم. تحدّد لهم أعمال تخضع لاستبداد ربّ العمل وهي مجردة من الصفة النقابية أو شبه النقابية ويتقاضون بالمقابل أجورا متدنية جداً مقارنة بالعمال البيض واليهود.
وفي جنوب أفريقيا، كان هناك قانون يمنع الأفارقة من العمل في قطاعات اقتصادية معينة وبشكل عام في كل مجال عمل يستوجب أن يمتلك العاملون فيه حق المبادرة والمسؤولية وكانت مكاتب التوظيف والتخديم مكلّفة بتحديد شروط دخول الأفارقة الي "مناطق البيض".
في فلسطين، الأداة الأساسية للاحتلال الصهيوني كانت في مبدأ الملكية القومية للأرض، أو "نظام العمل اليهودي" الذي يفرض عدم قبول اليد العاملة العربية في المشاريع اليهودية وحماية الإنتاج اليهودي بمقاطعة المنتجات العربية. وكان الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية) الجهة المكلّفة ببناء المجتمع اليهودي على هذه الأسس وتكوين إطار للعامل اليهودي.
إلا أن مثالية المساواة (بين اليهود) لم تصمد طويلا أمام التفرقة الاجتماعية التي استجدت داخل المجتمع اليهودي نفسه مع الهجرة المكثفة لليهود الشرقيين الذين قدموا لينخرطوا أولاً في أعمال بسيطة تتطلب يداً عاملة رخيصة. غير أن القيود المفروضة على حق الانتقال للشغيلة العرب وعلى حقهم في تنظيم أنفسهم نقابياً كانت الكابح للمزاحمة والمنافسة.
التشابه والتماثل في القوانين والممارسة والاستيلاء والعنف واضحان بين حال ومصير الإفريقي القاطن في بانتوستان وبين فلسطيني الأراضي المحتلة. هم أنفسهم ضحايا الإمبريالية التي خلقت في الجنوب العالمي نماذج للحفاظ على مصالحها من خلال دعم العنف والتنكيل والنهب والاستغلال. هذا النهج الذي تستحضره طبيعة العنف الإسرائيلي، وخطاب العقاب الجماعي المستمر في قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر (وما قبلها) لا يمكن أن يحصل من دون دعم الولايات المتحدة الأميركية وأشباهها. وجنوب أفريقيا شاهدة على ما نقول.
الصورة: شرطي من جنوب إفريقيا يطوق طالباً بالقرب من كيب تاون
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة