"هل كان رونالد ريغان مهتمًا يومًا بالانتخابات والديمقراطية؟ متى دعا ريغان هايتي لإجراء انتخابات؟ متى دعا ريغان الجزار بينوشيه في تشيلي، أو كوريا الجنوبية لإجراء انتخابات؟ هل دعا نظام الابارتهايد في جنوب إفريقيا لإجراء انتخابات؟ كلا!"
صاحب هذه المقولة هو موريس بيشوب، الثائر الغرينادي الذي يُعَد نموذجاً للتجربة الراديكالية في العالم الثالث، ومؤسس حركة New Jewel Movement (NJM) For Welfare Education and Liberation التي قادت ثورة شعبية في جزيرة "غرينادا" بالكاريبي حققت سلسلة من المكاسب الثورية للطبقة العاملة والشرائح المتدنية من الطبقة الوسطى.
هذه الثورة الاجتماعية قضى عليها الاقتتال الداخلي والاجتياح الأميركي للجزيرة في 1983. فإذا سألنا: "لماذا تغزو الولايات المتحدة جزيرة كاريبية لا يتعدى عدد سكانها المئة ألف؟" يكون الجواب حتماً هو التالي: "لأن ثورة شعبية قامت فيها من أجل الحق بالتعليم والطبابة."
غرينادا جزيرة كاريبية مرّت ب 3 مراحل في النصف الثاني من القرن العشرين: الثورة، والاقتتال الداخلي، والاجتياح الأميركي. وفي خضم هذه التحولات، ظهرت حركة NJM وحصلت على دعم شعبي واسع في المراحل الأولى من الثورة في أواخر السبعينيات، وكان يُنظر إليها كتجربة مُلهمة في تاريخ منطقة الكاريبي لأنها كانت تمثل الجهد الجماعي الأكثر تقدماً من أجل نقل الأفكار الاشتراكية العلمية إلى أمريكا الوسطى. أمّا إقليميًا، فجاءت بطابعها التحرري استكمالًا للثورة الهاييتية في 1804 والثورة الكوبية في 1959 من حيث درجة التغيير التي حققته للمؤسسات السياسية والاجتماعية في البلاد.
ومثل معظم المستعمرات في الأميركتين، يمكن تلخيص تاريخ جزيرة غرينادا بثلاث كلمات: الإبادة والعبودية والاستعمار. فقد تبادل الفرنسيون والبريطانيون الأدوار بالسيطرة على الجزيرة منذ 1654. وأدى هذا الاستعمار إلى إبادة السكان الأصليين، واستبدالهم بالأفارقة لاستعبادهم في المنازل ومزارع السكّر والبُن.
إريك غيري وإضراب 1951
أدت هذه الظروف المادية إلى انفجار الحقد الطبقي على شكل إضراب حصل في 19 فبراير 1951 بقيادة إريك غيري، ما لبث أن تحوّل إلى ثورة شاملة: نُهبت بيوت الاقطاعيين البيض وأحرِقت، وخُرِّبت حقول جوزة الطيب والكاكاو، وأقيمت الحواجز على الطرق في جميع أنحاء الجزيرة.
وباختصار، شلّت الطبقة العاملة الحياة الاقتصادية في الجزيرة. وأعلِنت على الأثر حالة الطوارئ وطُلبت إمدادات عسكرية من بريطانيا وأُلقي القبض على إريك غيري، الذي أعيد اطلاق سراحه بالضغط الشعبي، ونجح الإضراب بتحقيق مكاسب كبيرة للطبقة العاملة.
جعل الإضراب من غيري السياسي الأكثر شعبية في غرينادا، فشكّل حزب العمال المتحد (GULP) لخوض انتخابات 1951 وفاز بأغلبية ساحقة، وحصل على 65 بالمئة من الأصوات وعلى ستة من مقاعد المجلس التشريعي الثمانية (المقعدان الباقيان تعيّنهما الحكومة البريطانية). ومع ذلك وبمجرد توليه السلطة، تحالف غيري مع شخصيات برجوازية، واتفق مع التاج البريطاني على طرد رفاقه من الحزب واستبدالهم بالاقطاعيين البيض، وخصخصة الشركات وحظر الإضرابات والتظاهرات. تحوّل غيري إلى قائد ميليشيات مسلحة ومزوّر للانتخابات.
موريس بيشوب وإضراب 1970
في تلك الفترة، بدأت تظهر على موريس بيشوب، الطالب الثانوي، بوادر النزاعات الثورية، فأسّس اتحاد جزر الكاريبي في 1958 وقرأ أعمال ماركس ولينين وتروتسكي وماو تسي تونغ، ثم اكتشف فرانتز فانون وتأثّر بكتاباته، وبتجربة جوليوس نيريري والثورة الكوبية. في 1962 أسس بيشوب ورفاقه حركة "إلى الأمام التقدمية" التي كانت تهدف إلى تثقيف وتوعية الشعب الغرينادي حول القضايا الملحّة التي كانت تشغل الرأي العام في البلاد. فتنقّل أعضاء المجموعة كل يوم أحد من مدينة إلى أخرى من أجل تنظيم حوارات ومناقشات وتوزيع كتب ومنشورات ثورية. كان موريس يتميّز بالبلاغة والحنكة والمهارات الخطابية، فساهم بنجاح الحركة التي أسست لتشكيل NJM فيما بعد.
سافر بيشوب إلى بريطانيا من أجل دراسة القانون، وكان يعمل لمدة 12 ساعة يومياً من أجل تغطية مصاريف السكن والدراسة. ولم يتخلَّ عن قضيته الأساسية فأصبح رئيسًا لاتحاد طلبة هولبورن كولدج لأربع سنوات متتالية، ونظّم المؤتمرات الداعمة لحركة التحرر الوطني في افريقيا وحملات مناهضة للتمييز العنصري والاضطهاد العرقي اللذين يعاني بسببهما أفارقة الشتات.
في 1970، عاد بيشوب إلى غرينادا إثر قيام إضراب قطاع التمريض النسائي ضد ظروف العمل السيئة في مستشفيات الجزيرة، فتحوّل الإضراب إلى مظاهرة في شوارع العاصمة شارك فيها الطلاب والنقابيون الذين اشتبكوا مع الشرطة. وطبّق ما تعلّمه بيشوب في دراسته القانون، فنجح، بعد محاكمة استمرت 8 أشهر، في تبرئة الممرضات اللواتي تعرضن للاعتقال خلال الإضراب.
الأحد الأسود
شهدت تلك الفترة تدهور الخدمات الصحية والتعليمية وارتفاع معدّل الوفيات بين النساء الحوامل. ولكن جوّ الاستياء قُمع بالقوّة المفرطة، فشكّل غيري عصابات من المجرمين المعروفة باسم Mongoose Gang، تم تدريب عناصرها وتزويدهم بالأسلحة من قبل الديكتاتور التشيلي بينوشيه. وفي أواخر 1973، حاول غيري استخدام قضية الاستقلال عن التاج البريطاني والانضمام للكومنولث لحرف النظر عن القضايا الاجتماعية وتجاوُز الاستياء الشعبي. إلّا أن حركة NJM عارضت الصفقة التي كانت ستعزز قبضة غيري على السلطة وتمرّر مصالح التاج البريطاني. فنظّمت مؤتمرًا شعبيًا حضره أكثر من 10 آلاف شخص. وفي 18 نوفمبر 1973، ردّت العصابات باعتقال 6 من منظمي الحركة وأمر ضابط بحلق رؤوسهم بالزجاج المكسور وهددهم بإجبارهم على أكل خليط الدم والشعر. ومع انتشار أخبار التعذيب الوحشي، أجبرت المعارضة الجماهيرية غيري على إطلاق سراح السجناء الستة. فبدأت الإضرابات تتوالى، بدءاً بإضراب 1 يناير 1974 الذي ضيّق الخناق على غيري وقضى على مصادر تمويله. عندها أرسلت بريطانيا 100 ألف جنيه إسترليني وزوارق حربية إلى الأرصفة لبثّ الرعب في صفوف العمال المضربين.
ثورة من أجل التعليم والطبابة
في 1976، وبعد انتخابات شابتها مضايقات وعمليات تزوير، حصل ائتلاف NJM، الذي قرر التحالف مع البرجوازية، على غالبية المقاعد. إلا أن التحالف لم يدم طويلًا، حين برزت الخلافات الطبقية على أولوية القضايا الاجتماعية التي عبّرت عنها الإرادة الشعبية في جميع أنحاء الجزيرة.
فقرّرت الحركة تنظيم تمرد وحددت تاريخ 13 مارس 1979 ساعة الصفر. اعتقل الجناح العسكري للحركة رجال غيري (الذي كان قد توجّه إلى نيويورك) واستولى على ترسانة الجيش وأحرقَ الثكنات العسكرية، وسيطر على محطة الإذاعة ودعت الحركة في خطاب إلى دعم الثورة. وسرعان ما تدفق الآلاف من الغريناديين إلى الشوارع، واعتقلوا أعضاء عصابة Mongoose، واستولوا على مراكز الشرطة، ورفعوا أعلام NJM. وبهذا تكون NJM قد أطاحت حكومة إريك غيري الديكتاتورية المتحالفة مع بريطانيا.
أصبح موريس رئيس وزراء غرينادا وعلق الدستور وأسس حزب الشعب الثوري PRG من شيوعيين واشتراكيين وبعض الفصائل الأخرى، وقام بتوجيه كوادر الحزب ببناء المؤسسات الشعبية المتمركزة في القرى، لتسهيل المشاركة الواسعة في شؤون البلاد. وألغيت جميع القوانين المناهضة للعمال والنقابات وخُصّصت 14 في المئة من الميزانية للإنفاق على القطاع الصحي، وهو أحد أعلى المعدلات في دول الكومنولث الكاريبي.
وقضى الحزب الجديد على الفساد في القطاع الصحي وتم تشكيل فرق صحية متنقلة للمناطق النائية. كما وضع الحزب عددًا من التدابير التي ساهمت في رفع مكانة المرأة في المجتمع. فتم تخفيف عبء رعاية الأطفال بإنشاء مراكز الحضانة والرعاية.
وبالإضافة إلى ذلك، خُصِص أكثر من 22 في المئة من الميزانية للتعليم، وخُفِضت الأمية من 70 في المئة إلى أقل من 3 في المئة في أقل من 4 سنوات، وارتفع معدل الطلاب الملتحقين بالمدارس الثانوية من 11 في المئة إلى 40 في المئة.
كما حاول حزب PRG معالجة مسألة الأرض، حيث كانت أكبر العقارات، التي تمثل أقل من 1 في المئة من إجمالي حيازات الأراضي، تشكل 50 في المئة من الأراضي القابلة للزراعة. ولكن بحلول 1979، وُزّعت مئات الأراضي على الفلاحين واستُخدمت الأرض لخفض البطالة لأدنى المستويات.
الاقتتال الداخلي مدخلًا للغزو الأميركي
في أواخر 1983، نشب صراع داخل الحزب بين مجموعتين – واحدة برئاسة موريس والأخرى برئاسة بيرنارد كوارد. حدث هذا الصراع تحت تهديد التدخل العسكري الأميركي، حيث تجمّعت السفن الحربية الأميركية على مسافة ستة أميال فقط من مطار بوينت سالينز. وادعت الحكومة الأميركية أن هذا المطار كان يستخدم لأغراض عسكرية سوفييتية وكوبية. وقد ثبُتَ زيف هذه الادعاءات بعد الغزو الأميركي. كما عملت وكالة المخابرات المركزية الأميركية CIA على نشر الفساد في صفوف القيادة النقابية من خلال المعهد الأميركي لتنمية العمالة الحرة (AIFLD) وحاولوا زعزعة استقرار الحكومة من خلال أعمال تخريبية مختلفة، مثل محاولة تحريض العمال على الإضراب وقطع التيار الكهربائي عن البلاد بأكملها.
في ظلّ هذا التوتّر، ألقى فصيل "برنارد كوارد" القبض على موريس بيشوب ووضَعَه رهن الإقامة الجبرية في منزله بسبب أنشطة مناهضة للثورة. إلا أن الآلاف خرجوا إلى الشوارع للمطالبة بالإفراج عنه وحملوا السلاح لمواجهة الجيش. أمّا موريس، فرفض الاقتتال الدموي الداخلي وسلّم نفسه لوقف أعمال العنف، فتمّت تصفيته بسرعة في 19 أكتوبر 1983. وبعد إعلان وفاته، ضرب مسلّح عنقه بالسكّين وقطع إصبعه لسرقة خاتمه. نُقِلت جثث بيشوب ورفاقه إلى معسكر للجيش حيث أحرِقت جزئياً في حفرة، ولا يزال مكان دفنهم مجهولًا حتى اليوم.
وبعد أقل من أسبوع، في 25 أكتوبر، غزت الولايات المتحدة الجزيرة بإنزال 5 آلاف جندي أميركي، لانهاء التمرد الشعبي ضد الانقلاب، ورتّبت لانتخاب نظام تابع لها، شَرَعَ في القضاء على جميع مكاسب الثورة.
أما ذريعة الرئيس الأميركي رونالد ريغان لتبرير الغزو فكانت أن مئات طلّاب الطب الأميركيين يتابعون دراستهم في الجزيرة وهم معرّضون للخطر. إلا أن الغزو كان جزءًا من استراتيجية إدارة ريغان لتقويض الحكومات الثورية في الكاريبي وبلدان أميركا الجنوبية.
___________
مراجع :
Searle, C., (1983). Grenada: the struggle against destabilization
Heine, J., (1990). A Revolution aborted: the lessons of Grenada.
Brizan, G. I., (1984). Grenada: island of conflict: from Amerindians to people’s revolution 1498-1979.
Schoenhals, K. P. & Melanson, R. A., (1985). Revolution and intervention in Grenada: the New Jewel Movement, the United States, and the Caribbean.
Payne, A., Sutton, P. & Thorndike, T., (1984). Grenada: revolution and invasion.
Grenade, W., (2010). Retrospect: A View from Richmond Hill Prison: An Interview with Bernard Coard.
Ferguson, J., (1990). Grenada: revolution in reverse.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة