ليل الرابع من نوفمبر 1969، لحق الشيوعي البرازيلي "كارلوس ماريجيلا" بمن سبقه من مناضلين قدّموا حياتهم فى سبيل قضايا شعوبهم. في تلك الليلة استطاع عميل (مرشد للأمن) أن يستدرجه الى حيث أحاطت به مئات من قوات الأمن الخاصة المدرّبة على أيدي المخابرات المركزية الأميركية. ومع اغتيال ماريجيلا خسرت الحركة الثورية البرازيلية مناضلاً طليعياً بارزاً ساهم فى تطوير نضالات الشعب البرازيلي وشعوب أميركا اللاتينية، وقدّم بأفكاره أسلوبا جديداً فى تلخيص المعرفة والممارسة الثورية. اهتمامه الدائم بصنع الثورة دفع به إلى أن يهِبَ حياته لقضية الاشتراكية ويطوّر استراتيجية جديدة لحرب التحرير البرازيلية.

الانحياز أولاً

ولد ماريجيلا فى الخامس من ديسمبر 1911 فى مدينة سلفادور فى ولاية باهيا البرازيلية، وهي إقليم فقير يقوم اقتصاده على انتاج المواد الخام كباقي ولايات الشمال الشرقي فى تلك البلاد. كان والده مهاجراً إيطالياً وأمّه برازيلية متحدرة من سلالة عبيد من السودان. نشأ في بيت فقير في مرحلة كان النفوذ الإمبريالي الأمريكي يدخل البرازيل، وقد بدأ بتنفيذ المشاريع الاقتصادية الأولى على نطاق واسع.

أنهى ماريجيلا دراسته الابتدائية بالتزامن مع اندلاع الأزمة العالمية للرأسمالية فى أواخر العشرينات فكان شاهداً في فترة مبكرة على موجات الإضرابات العمّالية وتدهور أسعار البُن وانتشار الفقر على نطاق واسع. في الثامنة عشرة من عمره، وعندما كان فى مدرسة سلفادور الصناعية، انضمَ ماريجيلا إلى الحزب الشيوعي البرازيلي. وفى 1934، عندما أُدخلت الأيديولوجية الفاشية إلى أميركا الجنوبية إثر وصول هتلر إلى الحكم في ألمانيا، التحقَ ماريجيلا باتحاد الطلاب الحُمر.

فى أوائل 1935، انتقل إلى ريو دي جانيرو بوصفه عضواً في ما سُمي اللجنة الخاصة للجنة المركزية، وهناك عُيّن مسؤولاً عن عمليات الطباعة. وبعد هزيمة الحركة المسلّحة لتحالف التحرّر الوطني في نوفمبر 1935، اشتدّت أعمال القمع وألقي القبض على ماريجيلا في مارس 1936 وتعرّض لمختلف أشكال التعذيب من أجل الإدلاء بمعلومات عن التنظيم. إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل وبقي ماريجيلا في السجن حتى مايو 1937 حين قرّرت الحكومة، إستعداداً للحملة الإنتخابية، إطلاق سراح السجناء السياسيين الذين لم تكن مدة سجنهم قد تحدّدت. بعد خروجه من السجن، ذهب ماريجيلا إلى ساو باولو ليصبح مسؤول لجنة الولاية في الحزب، فنجح بتنظيم الحزب وصفّى العناصر الانتهازية التي تسلّلت إلى داخل اللجنة المركزية وقاد الشيوعيين للعمل داخل النقابات الرسمية التى أنشأتها الحكومة. ألقي القبض عليه مرة أخرى في ساو باولو في 1939 وأمضى أشهراً قليلة فى الحجز قبل أن يتم سجنه في جزيرة فرناندو دى نورونيا التي تحوّلت إلى قاعدة عسكرية بعد دخول البرازيل الحرب العالمية الثانية. خلال وجوده في السجن، انشغل ماريجيلا بعمل سياسي مهم مع رفاقه المسجونين البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف، فنظّمَ برامج للدراسة على مختلف المستويات وفصولاً لمحو الأمية وتدريبات رياضية للنزلاء. شكّلت هذه التجربة نواة مشروع الجامعة الشعبية.

من البرلمان إلى العمل السرّي

مع انتهاء حقبة القبضة الحديدية، نشأ واقع سياسي معقد فى البرازيل. بدايةً، صدر عفو عام بعد الانتصار على الفاشية فى الحرب العالمية الثانية وأطلِق سراح ماريجيلا الذي انتُخب عام 1946 نائباً في البرلمان الفيديرالي عن ولاية باهيا على قائمة الحزب الشيوعي. انتهت هذه الفترة بعد عامين عندما تقرّر حل الحزب الشيوعى وتجريد أعضائه من عضويتهم فى البرلمان. فقرّر ماريجيلا العودة إلى ساو باولو فإلى العمل السّري.

وتلك المدينة التى ينتمى جزء كبير من سكانها إلى الطبقة العاملة وتُعد مركزاً للفروع الرئيسية لاقتصاد البرازيل، ازداد اقتناع ماريجيلا بالحاجة إلى أشكال جديدة من النضال. فمع انتهاء عقد الخمسينيات بدا واضحاً أن الإمبريالية تسعى لتعزيز قبضتها في البرازيل بعد أن خسرت كوبا. وبعد دراسة التجارب السابقة، توصّل ماريجيلا إلى استنتاجات قادته إلى تبنّي طريق النضال الثورى المسلّح. وفي 1967، عندما لم يعد موقفه متوائماً مع مواقف اللجنة المركزية، استقال من الحزب الشيوعي البرازيلي قائلاً: "إن التزامنا الوحيد هو الثورة."

اتّبع ماريجيلا استراتيجية شاملة هدفها النهائي تطوير حرب ثورية ثلاثية الأبعاد: حرب العصابات في المدن، والحرب النفسية، وحرب العصابات في الأرياف. الجهد الرئيسي للتنظيم كان موجّهاً نحو العصابات الريفية من أجل تهيئة البناء التحتي وإبراز التنظيم الثوري. ونظراً لاتساع مساحة البرازيل الجغرافية، نظّم ماريجيلا ورفاقه حرب العصابات كنشاط متحرّك وليس كبؤرة ثابتة.

دليل حرب العصابات

الهدف من تنظيم حركة التحرر الوطني كان وضع حد للديكتاتورية العسكرية المحلية ولسيطرة إمبريالية اليانكي، وتمكين الجماهير من بناء مستقبل عادل للجميع. أيقن ماريجيلا أن هذا البرنامج هو طريق الخلاص ليس فقط للبرازيل ولكن للملايين من النساء والرجال في مناطق مختلفة من العالم. وقال فى مقابلة معه بمؤتمر منظمة التضامن فى أميركا اللاتينية OLAS: "ليس هناك طريق آخر للعالم سوى تنظيم حرب عادلة وضرورية ضد الإمبريالية ووكلائها المحليين."

وفى 1964 بعد الانقلاب العسكري، كان ماريجيلا ورفاقه في الصفوف الأمامية للمعارضة. وكانت خطواتهم الأولى تشمل الظهور علناً للاستحواذ على ما يحتاجه العمل الثوري من مال وأسلحة، فظنّت السلطات في الفترة الأولى أن عصابات من اللصوص تقف خلف عمليات السطو. وعبّرت الحركة من خلال هذه العمليات عن حربها الثورية واندفعت متصاعدة فى المدن الكبرى فى 1968 من خلال حرب العصابات والحرب النفسية تمهيداً لحرب العصابات الريفية. كانت المجموعات تهاجم مصالح الديكتاتورية العسكرية ومراكز نفوذ الولايات المتحدة الأميركية. ومع أنه انتظم طيلة حياته ضمن هيكل تنظيمي تقليدي، احترم ماريجيلا نتائج الممارسة الثورية القاعدية وتوصل الى استنتاجين أساسيين: أولاً، أن أي تنظيم ثوري يصبح متماسكاً بفضل نشاطه، وثانياً، أن النشاط الثوري هو الذى يخلق التنظيم ويعطيه اسمه.

ولذلك، رفض ماريجيلا الاستقطاب "بالكلمات"، ورفض التمسك بأمور من شأنها أن تحدّ أو تعيق النشاط الثوري، فكان يؤكد على أن "المهمة الأولى هي ليست عقد اجتماعات وإنما القيام بالنشاط الذي يحتاج تخطيطاً دقيقاً." وقصد ماريجيلا بذلك التشديد على ضرورة عقد اجتماعات عمل لمناقشة الخطط قبل تنفيذها. ولكن شتان ما بين اجتماع واجتماع. 

في كتابه "دليل حرب العصابات فى المدن"، يشير ماريجيلا إلى قواعد خاصة للاجتماعات، يتعلق معظمها بكيفية ضمان أمن الاجتماع والحاضرين فيه والوصول الي مقررات عملية تحدّد دور كل مشارك فيه. فهو كان يرى أن الجيوش النظامية غارقة في البيروقراطية الشكلية والمركزية المطلقة، فتحشد الأنصار الذي يتلقون الأوامر فقط. أما الحركات الثورية المسلحة فلا مكان فيها للقيود البيروقراطية أو التراتبية التنظيمية، بل الأجدى تحقيق المركزية من خلال نشاط جميع خلايا التنظيم والقتال ضد العدو بأشكال مختلفة. وبذلك، يتحقق في الحركة النشاط والرفض الواعي للواقع بمختلف مؤسساته وأدواته وعلاقات إنتاجه وأجهزة القمع والأفكار المعادية للجماهير. ومن جهة أخرى، يتحقق التفاعل الواعي المنظم مع حركة الجماهير وممارستها ورفضها العفوي للواقع المفروض عليها بالعنف.

بعد أقل من عام على كتابة دليله حول حرب العصابات، وبعد سلسلة من العمليات الثورية الناجحة، اتخذت السلطات قرار تصفية ماريجيلا، فنصبت له كميناً في ليلة الرابع من نوفمبر 1969، ليقتل ويُدفن في مسقط رأسه سلفادور في باهيا. صمّم المهندس الشهير أوسكار نيماير شاهد القبر، وهو الشاهد الوحيد الذي صمّمه نيماير، ووُضعَت عليه عبارة لماريجيلا: "لم أكن أملك الوقت لأخاف."

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button