وسطَ زحام المارة في شوارع "جوهانسبرغ"، يقف شاب "أبيض" أنيق، يرفع يده ليوقف سيارة أجرة. يمد الشاب كفه فترتخي قبضته عن المظلة المطوية داخل غلاف أنيق من الجلد. وفجأة، يظهر غلام "أسود" أشعث حافي القدمين، يرتدي سترة أكبر من مقاسه، وبسرعة البرق يخطف المظلة ويذوب وسط الزحام. هذا الطفل من ضمن الآلاف الذين يعيشون، ينامون، يتسولون، يغنون، يسرقون، يتقاتلون، يحبون، يكرهون، وكثيرًا ما يموتون، في شوارع مدينة مجردة من الرحمة. وفي هذه المواجهة الصريحة بين الفقراء وبحبوحة الأغنياء، يمثل هؤلاء الصغار رمزًا لكل مدن العالم الثالث.
تعد "جوهانسبرغ"، شأنها شأن مثيلاتها من المدن الضخمة، مكانًا بشخصية انفصامية، مثل الرواية القوطية "جيكل وهايد" للكاتب الأسكتلندي "روبرت ستيفنسون". ترتفع هامات ناطحات السحاب الفولاذية ذات الزجاج الداكن حول الطرق العلوية والمناظر الطبيعية البديعة لحديقة الاستقلال. وعلى بعد نصف ميل فقط من هذا كله، تتكوّم الأكواخ المتداعية المصنوعة من خشب وكرتون، على المنحدر السحيق في كواليس المدينة. نجحت "جوهانسبرغ" البرجوازية في إزاحة الفقراء عن الأنظار. ولكن الفقراء يأبون أن يموتوا جوعاً على أطراف المدن، في حين ينعم الأثرياء البيض وأقرانهم من البرجوازية السوداء الناشئة بالولائم. ولذا، فهم يغِيرون على مركز المدينة بأسمالهم وأدرانهم. ويصطف الشحاذون على الأرصفة تحت لافتات الحوانيت الأنيقة.
تسعل امرأة محتقنة الوجه، وتشير إلى الرضيع المستسلم للنوم على كتفها، وتمد يدها في إلحاح وإصرار ويأس تستجدي المال. رجل أعرج يرسم مشاهد سريالية ليجمع المال لإجراء عملية جراحية. هزيل في الخمسين مدثر في شال بنّي يداعب أوتار القيثارة، في حين تفرك ابنته ذات العشرة أعوام أنبوبًا من البلاستيك بسكين، وأختها الصغيرة تهز خشخيشة. تعلو وجه الأب أمارات بؤس لا يوصف، وينطق وجها الفتاتين بلهفة تكذب أنغام البانتو الصادرة عنهما. وهناك أهل النفايات، فيلق من الملعونين الذين لا تقل سيماهم اتساخًا عن القمامة التي يجمعونها من صناديق نفايات المدينة. تحمل النساء أكياسًا هائلة من الكرتون على ظهورهن، يجمع الصبيان شاحبو الوجوه القمامة من الصناديق المعلقة على أعمدة النور، ليقلبوها في عربات مدفوعة باليد. يهيمون في طرقات الضواحي الفخمة، حيث تتجاسر عليهم البورجوازية البيضاء والسوداء، منعدمة الضمير، وتجبر هؤلاء الأطفال الفقراء على دفع ثمن زجاجات الويسكي الفارغة.
لقد خلق الأثرياء هذه الإشكالية، رجال الأعمال ومُلاّك الأراضي الذين يضنون على عمّالهم بأجر زهيد يجبرهم على الهجرة من الأطراف إلى المركز. المضاربون والمقاولون الطفيليون الذين أخذوا من الدولة الحق في بناء أحياء المدن الفقيرة دون أن يزودوها بالأضواء والطرقات والمياه، ثم يتقاضون أجارات باهظة من سكانها. يمثل الأطفال المتشردون طلائع هذا الجيش الهائل من الفقراء. إنهم يلاحقون الطبقات المرفهة كالذباب، ليذكّروهم دائمًا بالفقر الذي يمثّلونه. إنهم يقفزون إلى الحافلات، ويصدحون بالأغاني الحزينة استجداءً للمال، يمدون أيديهم المتسخة فيلوثون ثياب الأغنياء النظيفة، وتتدلى شفاهم بمَسكَنة. وفوق ذلك كله، يسرقون وينشلون ويرهبون أبناء الطبقات الوسطى، مجرِّدينهم من الخيرات التي اشتروها بالفائض الممتص من دماء الفقراء.
يعيش هؤلاء الأولاد في عصابات قوامها 10 أعضاء إلى 25 عضوًا يسيطر كل منها على منطقة معينة ومكان للنوم، يقودها زعيم أكبر سنًا، تبوأ مكانته بعد العديد من المشاجرات في الشوارع. وقد ابتكر هؤلاء الأطفال لأنفسهم أسلوبًا خاصًا للسعادة، هو استنشاق رائحة البنزين، ما يتلف رئاتهم، ولكنه يمنحهم إحساسًا بالدفء في الليالي الباردة، على حد قولهم. وتعمل المخدرات على إخماد الإحساس بالجوع، وتمنحهم الجرأة المطلوبة.
إن حياة التشرد هي جنة طفل العالم الثالث وجحيمه. يستمتع بحرية لا تحدها قيود، يحلم بها معظم الأطفال، حيث ينتقل من بلدة إلى أخرى، ومن مغامرة إلى أخرى، مثل "هاكلبري فين". المدينة في نظره غابة، يكون فيها حيواناً مفترساً تارة، وطفيليًا يقتات مخلفات المطاعم تارة أخرى. يستحم عاريًا في نوافير المدينة، ويستمتع بمزية الانتقال المجاني، معلقًا على مؤخرات السيارات، ويبدي احتقارًا ملائمًا لأساليب الحياة المألوفة في المدينة الحديثة المخصصة للطبقات صاحبة الامتيازات. ولكن الحياة في الشوارع يمكن أن تكون خطيرة بقسوة. فيصطدم كل طفل بالقانون وكثيرًا ما يقضي الليالي في السجون. ويسقط الكثيرون منهم تحت عجلات السيارات وسط زحام المرور. وطبعًا تشكّل المشاجرات اليومية الخطر الأكبر.
معظم هؤلاء الأطفال من أبناء القرويين المهاجرين من الريف بسبب عدم تكافؤ الفرص. يقصدون المدن آملين في تحسين ظروفهم. كثير منهم أميّون لا يمتلكون المهارات التي يحتاجها القطاع الحديث. والإيجارات في المدن مرتفعة، حتى الأكواخ لا تصلها الكهرباء ولا شبكات المجاري أو المياه. والذين يحتلون أماكن بوضع اليد، يشيّدون مساكنهم بأنفسهم ولا يدفعون الإيجارات، ولا يُوجَدون إلّا في بعض الجيوب المتناثرة على منحدرات وعرة يستحيل تعمريها. وكل من يحاول احتلال بقعة ملائمة بوضع اليد، سرعان ما تطارده الشرطة، مع أنها تتجاهل الإنشاءات غير القانونية التي يشيدها كبار المقاولين. وبالتّالي، فإن ما يتبقى من المال لا يكفي للطعام والملبس. فهناك أسر عديدة تعيش على عجائن طحين الذرة أو الحساء أو الماء بالسكر. وهكذا، يتحول المنزل إلى قارب متداعية حمولته، تتناقص فيه المؤن لدرجة تجعل أفراد الأسرة الواحدة يتقاتلون عليها، مثلما تتقاتل الجرذان على الفتات. الكثير من الأولاد الذين تركوا بيوتهم بعد تعرضهم للضرب والحرق والعنف بسبب سرقة الطعام من خزانة المنزل.
إن الأسرة الجنوب أفريقية الفقيرة لا تربطها وشائج قوية في أفضل الظروف، فمعظم الأزواج غير مرتبطين بزواج رسمي. هناك ثقافة إثبات رجولة تدفع الرجال إلى القسوة في البيت والخيانة في خارجه. قد تهجر الأم التي تركها زوجها أحد أطفالها، أو جميعهم، إذا ما عجزت عن إطعامهم. وقد تجلب إلى البيت رجلًا آخر، تمنحه الثقافة "الأبوية السلطوية" الحق في كره أطفال الزوج السابق وضربهم. وربما يكون الطفل قد ذاق فعلًا طعم الحياة في الشوارع، بعد أن أرسلته الأسرة إليها ليبيع السجائر أو ينظف الأحذية، لزيادة دخلها. إنه يعرف أن باستطاعته الاسترزاق من حياة الشوارع، وقد يكون أحسن حالًا من الحياة في منزله. وهكذا يهرب من البيت.
إن هؤلاء الأطفال الصغار لا يدركون بالطبع أنهم نتاج الظلم الاجتماعي، وان نشاطهم يشكّل نوعًا من الانتقام الفوضوي من هذا الظلم. إنهم يشنون حرباً فردية ارتدادية من الإجرام، في حين تتطلب الإشكالية نضالًا منظمًا ومنضبطًا. ولكنهم يمثلون بكل وضوح الفرق الشاسع في العالم الثالث بين المدينة الحديثة التي تقطنها الطبقات الحضرية صاحبة الامتيازات، ومدينة الفقراء الأوسع، القابعة على مداخلها.
تولّد هذا الفرق الشاسع في العصور الاستعمارية أيضا. فقد نمت المدن فيها قبل العصر الاستعماري على هيئة أسواق ومراكز دينية أو تجارية أو إدارية. وكانت هذه المدن طفيلية أحيانًا، إذ كان يقطنها الغزاة لامتصاص الأتاوات من الرعايا واستهلاكها. وقد نما معظمها بشكل عضوي من داخل المجتمعات التي كانت تنتمي إليها. كان الأوروبيون مقتنعين تمامًا بتفوقهم الحضاري، ومن ثم أقاموا المدن على نمط أوطانهم الأصلية، فبدت غريبة وشكّلت بؤرة لثقافة لا تقبل الحلّ الوسط.
احتاجت إلى بعض الأهالي المحليين للوظائف الصغيرة، كالحمالين أو الخدم أو صغار الكتبة. وهكذا، أفرزت المدن الاستعمارية حولها معسكرات من أكواخ الأهالي، هذا إن لم تصل إلى مدينة محلية قائمة. وهكذا أيضاً كان أصل المدينة ذات الوجه المزدوج. كانت المدينة الاستعمارية ذات الطراز الأوروبي طفيلية في جوهرها الاقتصادي، فقد كانت المكان الذي يتم فيه تجميع الفائض الاقتصادي المنتزع من المستعمرة، ليتم شحنه من أوروبا. كان "والتر رودني" يعي هذا الدور، إذ كتب أن "المدن في أفريقيا هي ابتكار السيطرة الأوروبية، واليوم تتحكم هذه المدن بالقرى وتستنزف مواردها، حتى بدأت القرى تتداعى."
تأصلت الطبيعة الطفيلية لمدن العالم الثالث واستمرت حتى ما بعد الاستقلال. ولا يزال دم القرى هو الإسمنت الذي تُبنى به صروح المدن. والحق أن مشكلة التمدين المفرط الحقيقية لم تظهر على الساحة إلا برحيل المستعمرين، فقد منع هؤلاء الهجرة عمومًا بالوسائل المادية، ولم يشجّعوا التنمية الصناعية، وقصروا التعليم على فئة محدودة من الأهالي الذين سخّروهم لخدمتهم. وقد عزز الاستقلال شأن هذه المدن كثيرًا، فاتّسع نطاق الخدمات العامة، وشيّدت عواصم جديدة في بعض البلدان. وتدفقت الاستثمارات الهائلة لإقامة صناعات جديدة، وتأسيس التعليم على نشر قيم حياة المدن على الطراز الغربي، تلتف حولها أحزمة عريضة من الفقر، هي الأحياء التي تنمو بمعدل أسرع من هذه المدن. وتجد لها تسمية خاصة في كل لغة، مثل "هوود"، "سْلَمز"، "شانتي"، "بستي"، "باريو"، "فافيلا"، "بويبلوس خوفنيس"، "فيلاس ميزرياس"، "بيدونفيل"، كل هذه الأحياء يقطنها المنبوذون الموحلون في البؤس والحرمان.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة