"ليس الفنّ مرآةً تعكسُ الواقع، بل هو المطرقة التي نُشَكّل بها الواقع"
نحاور في هذا العدد، وموضوعه "السّرقة"، المؤلف المسرحي والكاتب الألماني برتولت بريشت، أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل في المسرح الأوروبي الحديث. صاحب السؤال الشهير "ما سرقة مصرف مقارنة بفتح مصرف؟" يتأرجح دائماً بين الممثل والمُشاهد، بين الأصالة والسرقة، بين الواقع والوهم. السّيد بريشت نال حصته من اتّهامات بالسرقة، فكيف يجيب على هذه الاتهامات؟ أهلاً أستاذ.
كيف تبدأ الحوار باتهامي بالسرقة؟ سيكرهني القرّاء.
غرابة على الطريقة البرشتية؟ أنا لا أتهمك بشيء، بل أنقل عن مؤرخين ومراجع. أتحدّث عن اتهامات. لك حق الرّد، والجمهور يقرّر. (أتخيّل الآن أنني أنظر باتجاه الكاميرا وأخاطب المُشاهدين مباشرة على الهواء ضمن برنامج ترفيهي، مشيرًا بإصبعي: "الجمهور يقرّر". ما رأيك؟)
رأيي أنها محاولة ضعيفة لتقليد تقنيّة طورتُها منذ زمن وأستخدِمُها دائماً في مسرحي الملحَمي. أنت تحاول صعق القارئ بشحنة من الغَرابة، تحاول كسر الحائط الرابع وايقاظ الجمهور بهدف مخاطبته مباشرة، كما يفعل "الاستاذ مارسيل" في مسرحيته الأسبوعية. المشكلة في "الاستاذ مارسيل" أنه يستخدم هذه التقنية بهدف بيع الوهم، فيكسر الحائط الرابع، أي شاشة التلفزيون وينشر الأكاذيب. الشرط الأول للمسرح الملحمي هو أن يكون المسرح مسرحاً ديالكتيكيًا وليس بورجوازيًا خرائيًا.
على كل حال، نوجّه تحية للاستاذ مارسيل (أخاطب الكاميرا هنا أيضاً). ولكن دعنا نبدأ بحادثة طريفة قد تكون الأخيرة في هذا اللقاء. سيد بريشت، هل تعلم أنه قبل أسبوعين، بينما كنت في مرحلة الإعداد لهذه المقابلة، زرتُ مدينة جبيل المتوسّطية، وإذ بي أتفاجأ بنسخة من كتابك "رواية البنسات الثلاثة" مهملة بين كتب ومجلات مرّ عليها الزمن وأكلها الغبار في سوق الكتب. هي نسخة مميّزة صدرت عن دار Penguin عام 1973. دفعت ثمنها 45 ألف ليرة لبنانية فقط لا غير!
45 ألف ليرة فقط؟ في ظلّ التضخّم الحاصل عندكم في لبنان؟ هكذا يسرق الجبناء. هذه النسخة تستحق أكثر من ذلك. كما قال فلان الفولاني: "في ظلّ هذه الأسعار من يستطيع ألّا يسرق؟" كان عليك إلهاء البائع وسرقة الكتاب.
حسناً، على ما يبدو، تحاول أن تظهر لي أنك تكره السرقة وتقدّر الأصالة. دعني أبدأ فإذاً. كتبتََ 39 مسرحية، أشهرها "أوبرا البنسات الثلاثة" التي عرضت عام 1928. لكن في مقدمة كتاب Penguin الذي اشتريته لتوي، يصرّ الناشر على ذكر أن عددًا كبيرًا من مسرحياتك عبارة عن مسرحيات ونصوص قديمة أعدتَ تكييفها فأصبحت، وأقتبس من المقدمة، "أصبحت بين يديه (بريشت) أعمالًا جديدة تمامًا". لماذا الإصرار على قول ذلك في المقدمة؟
لا أقدم شيئاً مجاناً، دَعوا قراء مجلّتكم يتحرّون عن الموضوع، بعض المؤرخين اتهموني بسرقة بعض النصوص والمسرحيات من معاوِنات ومساعِدات، وبأني أقنعتهن بوضع اسمي على أعمالهن.
وهل هذه الاتهامات صحيحة؟
لا أعلم، كان السياق السياسي مختلفاً، كنا نتعاون من أجل قضية، ونعيش بحرّية، نبحث عن اوتوبيا، من يحددّ من يملك ماذا؟ ومن كان سيقرأ أعمالهنّ لو لم تكن مذيّلة بإسم برتولت بريشت؟
وتعايرني على كتاب اشتريته ثم تقول هذا الكلام وتبرّر أفعالك؟
توقّف بربّك، أنت تأخذ أفكار الفلاسفة وتنشرها في صفحة "جغل بيزنطي".
لا، أنا أحاورهم، ولا أحاول إسكاتهم، لهم حق الرفض أو الموافقة على الحوار.
واضح… تريد أن تعرف الفرق بين السرقة والأصالة؟ كانت "أوبرا البنسات الثلاثة" أول نجاح تجاري لي، ترافقها موسيقى لـ كورت فايل، وعُرِضَت لأول مرة في 1928. بَنيت نسختي انطلاقاً من "أوبرا المتسوّل" التي كتبها جون غاي في 1728، ترافقها موسيقى يوهان كريستوف بيبوش. طبعاً قرأت مسرحية غاي بعد أن ترجمتها مساعِدتي إليزابيث هوبتمان إلى اللغة الألمانية. استخدمَ جون غاي في المسرحية ألحانًا شعبية اسكتلندية مأخوذة في الغالب من ألحان وأشعار من بريطانيا وفرنسا وايطاليا. ثم في 1934 أعدتُ صياغة مسرحيتي "أوبرا البنسات الثلاثة" لتصبح "رواية البنسات الثلاثة". كما ترون كل شيء "مسروق" من مكان ما، أحياناً أسرق من أعمالي. وبالسرقة قصَدت وَهبَ الحياة مجدداً لأعمال مرّ عليها الدهر. ألم تَنتشل كتابي من سوق جبيل وسرقته بـ 45 ألف ليرة؟ أحيَيتُ أعمال جون غاي بعد 150 عامًا! تريد المزيد؟ أغنية "قمر ألاباما \ ويسكي بار (Moon of Alabama / Whiskey bar ) قمت أنا بتأليفها، ثم ترجمَتها إليزابيث إلى الألمانية عام 1925 ولحّنها كورت فايل لمسرحيتي "ماهاغوني الصغيرة" عام 1927. ثمّ أعدت استخدامها في "صعود وسقوط مدينة ماهاغوني" عام 1930، إلى أن عزفتها فرقة "ذا دورز" و "ديفيد باوي". لا شيء أصلي.
فهمت، ولكنك لم تُقنعني. على أية حال، ذكرتني بمانيفستو للمخرج الصديق جيم جارموش، وسآخذ بنصيحته في كل الأحوال. يقول مانيفستو جارموش: "لا شيء أصلي. أسرق من أي مصدَر يُلهِمك أو يغذّي مخيّلتك. التَهِم الأفلام القديمة والأفلام الجديدة والموسيقى والكُتب واللّوحات الفنية والصور الفوتوغرافية والقصائد والأحلام والمحادثات العشوائية والعمارة والجسور وإشارات الشوارع والأشجار والسُّحُب والمسطّحات المائية والنور والظلال. أسرق فقط من الأشياء التي تخاطب روحك مباشرةً. عندها فقط سيكون عملك (والسرقة) أصيلًا. الأصالة لا تُقدَّر بثمن. الأصالة ليس لها وجود. ولا تحاول إخفاء سرِقَتِك، احتفِل بها إذا أردت. على أية حال، تذكر دائمًا ما قاله جان لوك غودار: "ليست القضية في من أين أخذت بل إلى أين تأخذ."
وما رأيك بأن تحاور جارموش بدلاً منّي؟
لدي الكثير من الأسئلة. دعنا نتحدث عن مسرَحِكَ أي "المسرح الملحمي" (Epic Theater). تعتبِر أن تعطيل إحساس الجمهور بالواقع هو هدف "المسرح الملحمي". تريد أن تفصل المشاهد عن إحساسه بالواقع - أن يشعر بالغرابة أو القطيعة مع هذا الواقع. لماذا؟
ليس الفن مرآة تعكس الواقع، بل هو المطرقة التي نُشَكّل الواقع بها. "المسرح الملحمي" والذي أسميته فيما بعد "المسرح الديالكتيكي"، كان رداً سياسياً متناسباً مع اللحظة التاريخية التي كنت أعيشها. فمن خلال المسرحيات السياسية الجديدة، كنت أركّز على الجمهور وعلى إشراكه في المسرحية. "الجمهور"، أي الناس، هم القوى المُنتجة وصنّاع التاريخ. ولذلك كان عليّ أيضاً عرض التفاصيل المُملّة للأنشطة المالية التي كانت تمارسها شخصيات القصة، كالمصرفي وصاحب المصنع مثلاً. كانت المسرحيات بمثابة دورة تعليمية مكثّفة في الوعي الطبقي.
إذاً، المسرح الملحمي هدفه سياسي: أن تفرض على المشاهد أن يواجه شعور الشلل الذي يقول له بأن الأمور كانت دائمًا "على هذا النحو" وبأن أقسى طموحك هو البقاء في "النورمال" بلد التغيير. ولذلك أنظّم مسرحي بطريقة تحرُم المُشاهد من الرّاحة المعتادة حين ينسى أنه يشاهد مسرحية ويصبح مندمجاً في الأحداث على خشبة المسرح، وهذه حال المسرح البرجوازي الذي يهدف إلى كسب تعاطف الجمهور. بدلاً من ذلك، يقوم الممثلون في المسرح الملحمي بمخاطبة الجمهور بالمباشَر وإيقاظهم بدل تخديرهم. وبذلك تمنَع الجمهور من أن يكون مشاهداً سلبياً يحلم ويعيش حياة الشخصيات.
إذا أنت تعتبر أن المسرح البرجوازي هدفه التخدير، فأردتَ من خلال المسرح الملحمي كسر وهم الحائط الرابع ودمج الجمهور بالممثلين. أي أن تكسر الحدّ الفاصل بين الحقيقة والخيال.
نعم ، أعتقد أنه لا يمكن للمرء أن يكتشف حقيقة الأشياء إذا اعتمد على الموروثات وتمسّك بنماذج إعادة الانتاج التي اعتاد عليها. ولا علاقة لذلك بقدرة الفرد على الإدراك والتفكير، بل هي مشكلة أيديولوجية أولاً، وهي بدورها تؤثر على الإدراك. وبالتالي علينا التشكيك دائماً بكل ما يحصل من حولنا. وهذا يعني أنه يجب علينا أن نشكك بالمُعطى، والبديهيات، والمسلَّمات. يجب أن نتعامل مع كل ما هو عادي كما لو لم نعرفه من قبل. عندها فقط نتوقف عن شراء الأوهام.
أستاذ بريشت، أشرت في كتاباتك أن الرأسمالية لا تخجل أبدًا من إظهار تطرّفها، وأن التحرر من الرأسمالية هو، في البداية وفي النهاية، عمل فكري مسؤول يُعلِن بجدّية وصراحة أن عالمًا آخر ممكن رغم كلّ شيء. ما الوسيلة لتحقيق هذا الهدف؟ وما هو دور المسرح؟
في المسرح غير الديالكتيكي، أي المسرح البورجوازي، يغلق المشاهدون أعينهم ويتخيّلون عالماً آخر، يتخيّلون أنهم أثرياء وأقوياء، ومع ذلك، فإن الحياة الواقعية محدودة ومحبِطة لدرجة أنك لا تقوى على تخيّل حياة سعيدة تصنعها بيَدِكَ، ولذلك تسرق من الآخرين. معنى ذلك أن إدراكنا المحدود للواقع يجعلنا أسرى أحلامنا. إذا كنا قادرين على مواجهة تصوراتنا عن الحياة، وإذا كنا قادرين على فضح أنظمة الاضطهاد، مثلاً من خلال المسرح الملحمي / المسرح الديالكتيكي، فسنحصل على الجائزة الكبرى، وهي التحرر من الشقاء والعبودية والعزلة. هكذا فقط يصبح العالم الجديد ممكنًا.
سؤال أخير، هل تابعت مشروعنا الجديد في رحلة؟ "سينما بلاش"؟ ما رأيك؟
جميل، انتم تسرقون الأفلام وتعرضونها مجاناً. بالتوفيق.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة