"كل شيء يبدو آخذاً في اكتساب طابع علاجي، حتى العمل، وحتى الحبّ. كل هذه الأسئلة التي نتبادلها من نوع "كيف الحال؟" تعطي انطباعاً بأننا مجتمع مكوّن من مرضى يتفقّدون حرارة بعضهم البعض. العلاقات الاجتماعية تتشكّل الآن في ألفِ ملجئٍ صغير يكون البقاء فيه أفضل من السير في البرد القارس حيث لا يمكن أن يحدث شيء، لأننا جميعاً مشغولون بأن نرتجف بصمت معاً." 1
لا شيء سيتغيّر…
يدخل غرفة نومه كمن يرمي بنفسه في فوهة غواصة معطوبة وَجلّ ما يتمنّاه أن يغرق بثقله وثقلها حتى ينصهر حطامه مع حطامها. قبل الغرق، في العتمة، يتمسّك بالهاتف ويمرّر بإبهامه "البوستات" المرصوصة في شريط الأخبار، يدفعها صعوداً كمن يُدحرِج صخرة على تلّة. عبث. يقفز من بوست إلى آخر، بِلا هدف، كهامستر داخل عَجَلة أحلام. يقاطع نفسه التي أصابها الغثيان من كثرة الدوران: "ليست تلك هي المغامرة التي أريد". يراكم العبء ويمرّر الوقت حتى ينام. يرى نفسه في مرآة الشاشة، في بوستات الناس ومواقفهم اليومية. يتسائل: "ما هذا الهراء؟ كيف تستسهل الناس التعبير عمّا يخالجها من مشاعر؟ هل أنا مُذنب أيضاً؟ هل هي حقاً مشاعرهم؟ ترى بماذا يشعرون؟". تزيد هذه التساؤلات من رغبته في الغرق. يُمدّد جسمه إستعداداً للنوم فيسأله الداهية زوكربيرغ محاولاً مرة أخيرة استنطاقه: "What's on your mind؟" سؤال أشبه بجلسة تعذيب. ولكنه يرفض الإجابة على السؤال إذ تعلّم أن يلتزم الصمت في غُرف التحقيق. لن يكتب أي شيء. يغمض عينيه وينام.
الحلم رقم 1: أوديسيوس مصلوباً على سارية المركب
لم يكن أوديسيوس شخصية متهوّرة أو حتّى بطلاً من ذاك الصنف الذي تتوقّع منه أن يحدّق في عين الموت وحيداً وهو يشعل سيجارة. نعم كان فضولياً، يراقب ما يستهويه عن بُعد، يعيّن عليه، ثم يفكّر في حيلة للحصول على مبتغاه. ولكن هذا لم يكن كافياً لدمغ أفعاله بختم المغامرة. لو كان اوديسيوس نائباً في البرلمان اللبناني، لكان نائباً تغييرياً يمكنك متابعته على تويتر. ولو كان سائق شاحنة لَكُنا قرأنا عبارة "لا تسرع فالموت أسرع" مطليّة على مؤخرة شاحنته. موقف متوقّع بطبيعة الحال من صاحب فكرة التخفّي داخل حصان خشبي كبديل عن المواجهة على مشارف طروادة. هذه ميزة "الداهية"، الـ stratège كما علّمني أستاذ التاريخ الداهية في المدرسة. ومِن خصائصه التخطيط مسبقاً لمغامرة محسوبة ("مغامرة" و"محسوبة" في جملة واحدة؟) وأقصى طموحه أن يسجّل موقفاً أو أن يفوز في لعبة شطرنج بدل أن يخوض مغامرة حقيقية قد تودي به "في داهية".
هي ليست "المغامرة" الأولى لأوديسيوس إذاً. ولكنّه الآن يقف في وسط المركب الشهير معلّقاً بالحبال على السارية، بطلبٍ منه، قبل أن يأمر جميع البحّارة بسدّ آذانهم بالشمع. كل ذلك استعداداً لمغامرة محسوبة مع اقتراب المركب من جزيرة عرائس البحر التي تغوي الرجال بأصواتها وتقودهم إلى حتفهم. من الممكن أن نتخيّل، بالإذن من الستوريتيلار هوميروس، أن أوديسيوس المصلوب على السارية كان يشعر برعشة الادرينالين المتدفق في جسمه مع اقتراب المركب من الجزيرة. هو الأدرينالين نفسه الذي يشعر به صبي في سن البلوغ لأول مرة عندما يستيقظ في منتصف الليل ويتسلّل نحو غرفة التلفزيون ليشاهد قنوات الكبار سرّاً، فيتذوّق الرعشة ويُدمِن المغامرة. يقولون أن الكبار يخلقون الأساطير تعويضاً عن مغامرات الطفولة.
نداء عرائس البحر هو وعد بالحقيقة تصعب مقاومته. لا يا سيد هوميروس، نداء العرائس هو وعد زائف، لا حقيقة سوى أن نهاية تلك الأغنية تنذر بموت محتّم، وهو ما لا يستطيع أن يتحمّله إنسان. عندما نسمَع دوي صوت صفارات الإنذار، ننظر يميناً ويساراً بشكل لا إرادي بحثاً عن مصدر الصوت، عن سيارة إسعاف وجثة أو أكثر، تتوقف الحياة وحركة المرور، ونقف جميعاً بلا حراك لبرهة من الوقت. يستحضر الصوت فينا سكون الزمن ويصيب المستمع الضعيف بالرعب. كذلك على مقربة من الجزيرة المنحوسة تتلاشى الريح حول القارب ويهدأ موج البحر. هناك على اليابسة الحياة متوقّفة إلى الأبد 2: عرائس البحر أرواح أزليّة. المغامرة هي أن تنظر في عين عرائس البحر لتكتشف أنها الرغبة والموت في آن معاً. أن تكتشف أن حياتك تتحكّم بها سلسلة من صفارات الإنذار التي تجمّد الوقت وتنذر بالموت فتُجبِرك على التمسّك بالسّارية من دون هدف سوى البقاء على قيد الحياة. أوديسيوس، صاحب المغامرات المحسوبة، يتمسّك بالسارية، بحياته. يشعر بالخوف، يريد أن يعود إلى زوجته وأولاده، لا يريد أن يخوض المغامرة كاملة ولهذا السبب لن يتحرّر من القيود ومن السارية. المغامرة الحقيقية هي أن يرمي المرء بنفسه في النار ليخرُج منها إنساناً جديداً. دافع المغامرة هو نفسه سبب المعاناة الهائلة التي يخشاها الإنسان ويحاول الهرب منها. في هذه المعاناة تكمن اللذة أيضاً.
وعلى عكس أوديسيوس، تخوض العرائس مغامراتها حتى النهاية. يتحتّم عليها أن تصل إلى حافة الموت من أجل إيصال صوتها. والفشل في ذلك سيؤدي إلى هلاكها، مثل فشل مطربة تحاول أن تطرب جمهوراً سكراناً بطبقات صوتية عالية ونوتات أكروباتية. فإذا "نشّزت" علت صيحات الاستهجان والتعليقات الساخرة والتفاعل العنيف من جمهور حُرِمَ من لحظة نشوة، من طرب، من لذّة الوصول إلى العتبة الأخيرة، من الأدرينالين، فتفشل في مهمتها. أما إذا نجحت فتصبح إلهاً، diva.
أما أوديسيوس، فقام بكل ما بوسعه لحماية نفسه من المغامرة، من دوافعه ورغباته، عبرَ ربط جسده بالسارية. أراد بذلك إبطال مفعول رغباته - أن يجرّب مذاق السمّ من دون أن يتأذى. أوديسيوس هو ذاك الشخص الذي يجهد من أجل كبت رغباته بدلاً من إطلاقها، الذي لا يستطيع أن يواجه أحلامه وأن يسمع لحن الأغنية، فيصلب نفسه ويعذّبها قبل اقتراف أي ذنب. سفينة اوديسيوس مجتمع توجّهه الرغبات من دون هدف سوى تمرير الوقت، إجابة من دون سؤال، بوصلة يعاد توجيهها كلما توجّب علينا تجنّب صفارات الإنذار.
الحلم رقم 2: الملاك يتخلّى عن جناحيه
لم تعد وظيفة الملاك رقم 1 مبرراً كافياً لوجوده. أراد أن يجرّب شيئاً جديداً. أن يخوض مغامرة: أن يعرف ما هو الحب.
يستوطن الملاك الخفي أسطح برلين ليستمع إلى همسات سكّان المدينة الحزينة، يجلس إلى جانبهم، يواسيهم بلمسة خفيفة على الكتف وينصت إلى مشاكلهم ومآسيهم (كمن يتصفّح نسخة صادقة من فايسبوك يُدوّن فيها الناس مشاعرهم من دون أقنعة وبعيداً عن الشِلَلِ والاستعراضات). في فيلم "أجنحة الرغبة" - إخراج فيم فيندرز (Wings of desire - 1987) - الملائكة لا يموتون، ولكنهم أيضاً لا يعيشون تجاربهم الخاصة، بل يشاهدون تجارب البشر الفانين. في برلين المكتظة، يشعر الجميع بالوحدة والغربة والمسافة القاتلة بعيداً عن أحبائِهم. شيء يشبه فيديو كليب "أمراض مزمنة داخلية" في بيروت. كلّ ذلك يحدث على مرأى ومسمع من الملائكة. يقع الملاك رقم 1 في حبّ امرأة وحيدة تعيش في برلين وتعمل لاعبة أكروباتية في السيرك. من أجل هذا الحب يتخلّى الملاك عن أجنحته ويصبح إنساناً فانياً. على عكس أوديسيوس الذي قام بكل ما أمكن ليحمي نفسه ويحافظ على السيستم القائم، تخلّى الملاك عن كل شيء، ضربة واحدة، ولم ينظر إلى الوراء. (ألم تتخلَ حوّاء عن الفردوس لتجرّب نعيم المغامرة على الأرض؟) أراد الملاك أن يصبح كائناً يشعر برعشة الحب وبالألم والوحدة والمفاجأة. أراد الحقيقة - أن يعرف معنى الوقت بالنسبة لكائنٍ فانٍ، أن يجرّب شعور أن تخلع حذاءك تحت طاولة الطعام، أراد أن يعرف المغامرة - إحتمال الفناء هو شرط المغامرة - أن تواجه فرضية الموت. كصوت عرائس البحر، تجذبه أصوات معاناة البشر، أن تعاني هو أن تحصل (ربما) على ما تريده لاحقاً.
هي الدقائق الأولى لولادة الملاك رقم 1 في هيئة إنسان. يخطو خطوتين ويعبر جدار برلين منتقلاً من جهة إلى أخرى، يدخل عالماً جديداً لم يعهده من قبل إلا بواسطة همسات الناس. يتحوّل من ملاك خفي إلى إنسان من لحم ودمّ. مغامرته الأولى عنوانها الشعور بالألم: يقع ويتعرّض لإصابة طفيفة، ينزف من رأسه لأول مرة، يفرح. يتعرّف على طعم الدّماء فيقول: "الآن بدأت أفهم". إنه الوعي بالوجود. يريد أن يستحمّ، أن يقرأ الجريدة. أمور كثيرة خطّط أن يجرّبها: ساعة اليد، أن يتعرض للاحتيال و"يأكل الضرب" في محل الخردة، طعم السيجارة الأولى مع القهوة الصباحية، البحث عن إمرأته، أن يفقد ويفتقد. الحوارات العابرة - أن تناقش الانهيار قبل أن تطلب الفاتورة وتكتشف أن شراب الشعير بـ 105 ألاف ليرة - أن تسير في الشوارع المظلمة، أن تجدها وتجدك بالصدفة، العبَث اليومي، أن تشربا نخب اللقاء الأول. أن تكتشف بعد طول سيرة، أن كل مغامرة هي بحث عن الحب. بحث عن الموت.
يردّد البرلينيون، والباريسيون، وغيرهم أفكاراً حول المستقبل وعن الأقدار، عن مشاكل صغيرة وأخرى كبيرة، يرددون أغاني في سرّهم "On se dit qu'à vingt ans. On est le roi du monde"، أما الآن، فلا شيء يحصل: "أريد أن أبكي. ما الذي أريده؟ من أنا؟ هل تخلّيت عن المحادثات التي أجريتها مع نفسي عندما كنت صغيراً؟ هل ربطت نفسي بالسارية خوفاً من المجهول؟ كل هذا الوقت…هل كنت أبحث عن مغامرة أو كنت فعلاً أهرب منها؟"
يقظة
يستيقظ وأصابه الرعب من الحلم الأول والثاني…هل ربط نفسه بالسارية فعلاً؟ هل هناك أحلام في الخامسة والثلاثين كما في العشرين؟ لا يعلم إن كان يردّد أفكاره أو أفكار شخص آخر. لا يوجد عنفٌ في هذا العالم أعظم من أن يُملى على المرء، أي عكس إرادته، أن ينطق بالحلم الذي يراوده. ليس مستغرباً أن "السعداء" لا يتخيلون أبدًا (الوعي السعيد، أي الوعي الزائف، هو أن لا تعلم أنك لا تعلم شيئاً). أمّا من لا يشعر بالرضا، فيغوص في عوالم من خيال. ربما تكون هذه الأحلام هي القوى الدافعة وراء التخيّلات. أي أن كل خيال هو دعوة لتحقيق أمنية لم يَستجب لها أحد، تغيير لواقع غير مرضٍ. ولكن هذا العالم يقمع حتّى الأحلام، فيُنتج إنساناً غير سعيد خلف القناع. هذا العالم يعيد توجيه الأحلام والرغبات بعيداً عن المغامرة ونحو الوجبات السريعة واللذة المستعجلة. قيل أن الوعي بالوجود ترجمة لليقين، أن تعرف. أما اليوم، فلا يُمثّل الوعي سوى مصدر إحراج وقلق وعجز: أن تعرف أنك لا شيء.3
سمع البحّارة نداءات المغامرة تهدر من جديد. كان عليهم أن يتجرأوا، أن يخوضوا المغامرة كاملة، أن يقبضوا على المحظور لا أن يتمسّكوا بالسارية، أن يستحوذوا على ما ليس له ثمن، ما يجب الإستيلاء عليه، وكان عليهم أن يستمتعوا بمذاقه. ولكن، قُدّرَ لهم أن يصمّوا آذانهم، أن يتخلّوا عن أحلامهم، أن يدعوها تتدحرج نحو الهاوية. على المرء ألا يتخيل سيزيف سعيداً.
كلّ المغامرات انتهت. لا مكان للمواقف البطولية. وُلدنا جميعًا بعد فوات الأوان ولم نعُد نملك خياراً سوى اتّباع مسار شقّه عابرون من قَبلِنا. هل فعلاً انتهت كلّ المغامرات؟ يتردد، كصافرة إنذار، صدى شعار كُتِب على حائط منذ أكثر من نصف قرن: "في مجتمع ألغى كل المغامرات، المغامرة الوحيدة المتبقية هي إلغاء ذلك المجتمع." حتى هنا، نردّد شعاراً لم نصنعه نحن. كل شيء يبدأ بسؤال بسيط: لماذا المغامرة؟ الجواب: من أجل رحلة ضد الخط المستقيم الذي يصنع الوعي السعيد، ضد المسار المكتظ بالأرواح التي قتلها الضجر، عكس الرياح السائدة التي تحيك الوهم، ضد الوجبات الجاهزة والنهايات المعدة مسبقاً، ضد البديهي الذي لا يصنع أي جديد... ضد السارية والمرساة، ضد أحزمة البؤس وأحزمة الأمان، ضد سترات النجاة، ضد النجاة أساساً. ضد مجتمع يمنع كل أشكال المغامرة.
اكتب مغامرتك:
"خلصت مرساتي من الصخر،
ومشيت من بحر إلى بحر: الريح رباني وسفينتي أنقاض إنسان
فوجدتني، في آخر الدهر، أرسو على الصخر،
فحضنته، وبكيت من ذعري !" 4
____________
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة