الزمان: يوم الجمعة، الساعة التاسعة مساءً، الطقس بارد والقمر بدرٌ فضّي.
المكان: على الضفة الشرقية لنهر بيروت وعلى تماس مع شارع مُظلِم من منطقة برج حمّود. حركة السير خفيفة. مبنى وحيد لا تزال مصابيح الإنارة فيه تعمل: مصنع ملابس داخلية سابقاً بناه ابتداءً من ثلاثينيات القرن الماضي أحد مؤسسي لوبي الصناعيين في لبنان. عمل فيه نحو ستمئة عامل وعاملة. تحوّل منذ خمس سنوات إلى بار وصالة نشاطات فنية. في أروقته آثار وبقايا خليّة نحل: ماكينة "تتكيس" الحضور والخروج، آلات خياطة وكبس وكيّ وأجهزة إضاءة قديمة. في الخارج، باحة وحديقة "غريبة" عن محيطها. معظم المقالات والمراجعات على الانترنت تشدّد على سحر المكان. "ساحر"ّ… ربما لأن عمّال المصنع اختفوا؟ تحوّلت حديقة العمّال إلى بار! تبخّروا كالسبيرتو؟ انقرضوا؟.. "سحر" بطعم العنف. تقول الكاتبة: "بصراحة، الذهاب إلى هناك يشعرني وكأنني خرجت من الواقع لبضع ساعات وَعُدت. وبدخوله أشعر كأنني أدخل موقع تصوير فيلم."1
الشخصيات:
1- مارك: فنان "يريد أن يبقى بوهيمياً"، كما تنقُل إحدى الصحافيات عن الرجل الذي قرر في نهاية العقد الخامس من عمره أن ينتقل من مجال التصوير والإخراج إلى مجال الترميم والترفيه. انتقل من ضفة نهر إلى أخرى وحوّل المصنع المهجور إلى عالَم ساحر. يقول أنه يحترم المكان ولا يرضى الاستطباق (gentrification)، أي تحويل منطقة سكنية لتتناسب مع ذوق طبقة النبلاء ثمّ رفع سعرها وتهجير سكانها من الطبقة العاملة. فكرته يلخّصها كالتالي: "بار في الليل، وصالة عرض في النهار يستفيد منها الفنانون والأن جي اوز."
2- ماركوزيان: الشّبح، "حارس الوقت"، كان عاملاً في هذا المصنع المهجور، وظيفته تتلخّص بالتأكّد من أن العمال يختمون بطاقاتهم على ماكينة التتكيس. خسر وظيفته في بداية التسعينات ولم يزر المعمل منذ إغلاقه. يعود إليه لأول مرّة هذه الليلة.
مونولوغ: المالك الجديد للمكان، البوهيمي، يجلِس وحيداً في حديقة البار ويحتسي بعض النبيذ الأحمر. يشقّ الشبح ماركوزيان طريقه نحوه، يقول بلغة عربية مكسّرة: شبح ينتاب برج حمود! عفواً عفواً، لم أقصد أن أقلقك. يتابع قراءة تغريدة على تويتر: "قصّة حزينة، سنة 1994 كان في حوالي 3004 مصنع ألبسة و604 مصنع منسوجات، وحوالي 22 ألف يد عاملة مع ناتج صناعي 417 مليون دولار. اليوم في 273 مصنع ألبسة ومنسوجات ومنستورد ألبسة ومنسوجات بأكثر من 500 مليون دولار."2. كان الصناعيون الكبار يملكون كل شيء، طبعاً مع المصرفيين. أما نحن، فكنّا نعرض أجسادنا في سوق العمل، ليلاً ونهاراً، ونرضى بقليل من المال. أما الآن، فقد أصبح الفنانون - الأنتروبرونورز يستحوذون على أرواحنا ويجنون الأرباح بإسمنا. لا مفرّ من الإستغلال، حتى بعد أن تموت. ألا تشمّ رائحة النيكروفيليا تفوح في أروقة المصنع؟
لا أقصد إزعاجك بهذا الكلام. أتَفَهّم وضعك. أنت من جيل جديد من الفنانين النافذين، طبقة إنتفخَت بعد الحرب وأحكمت سيطرتها على المدينة لتأخذ بعض نفوذ "الصناعيين الأوائل"، وتستولي معها على "قطاع الثقافة" إذا صحّت التسمية، مرفقاً بقطاع الترفيه. الصّروح الثقافية بالنسبة لفئتك الحديثة العهد تتلخّص في تحويل مصنع مهجور إلى مكان للترفيه، شاطئ نقيّ إلى منتجع خاص، حديقة عامة إلى venue، طبعاً مع صبغة فنّية. ترفضون صبغ فعلتكم بالـ gentrification.. نعم قرأتُ المقابلة التي أجرتها معك المجلة الفرنكوفونية. أما النتيجة النهائية لاستثمارك المالي فهو خلق مكان خارج الزمان، وعلى نقيض مع أحوال هذا الزمن، فارغ، لا حياة فيه لولا أشباح زمن عابر. إلاّ أنه "يخاطب الروح"، كما يقول البعض في مراجعات زوماتو Zomato reviews. وذلك لأن الطبقة التي تنتمي حضرتك إليها تبيع الوهم على أنقاض هذا المصنع على شكل جرعات من النبيذ والحرتقات الفنية، تصنع، بدل الملابس، "المجتمع كعمل فنّي"3. خدعة سحرية. كيف حدث هذا؟ ولماذا؟
أتفهّم وضعك. عندما كنتَ شاباً في مقتبل العمر، كان الخيال والفنّ صديقيك للتعامل مع قلق هذه المدينة من دون الوقوع في فخ الرومنسية والمثالية. كان الفن وسيلتك لبناء جسر بين الذات والمجتمع، بين الخيال والواقع. تقول في مقابلة "أشعر بالقلق، ترهبني الجُموع." 4 مثلما جسّدَ الفن إمكانية التحرّر وتشكيل الذات الراديكالية، كان من المحتمل، بل كان من المحتّم، أن تستحوذ عليه أنظمة الهيمنة وتستخدمه لتعزيز سطوتها. الثقافة، وهي من مجالات الفن، تتطوّر بحسب الهيكل العام لمجتمع معيّن وكذلك بحسب السياق الذي يخوضه هذا المجتمع. ومن المفترض أن تكون الثقافة دعوة إلى تجاوز الواقع الإجتماعي القَمعي. بمعنى آخر، تفصل الثقافة نفسها عن النظام الإجتماعي وتقف على الضفة الأخرى من النهر استعداداً للمواجهة.
الفصل بين الثقافة والمجتمع لا يُقصَد به الهروب من الواقع الإجتماعي، بل خلق مسافة ومساحة نقدية داخل هذا الواقع من أجل خلق أفكار تنتج تحوّلات في المجتمع. ولكن الثقافة التي تنتقل إلى الضفة الأخرى وتفصل نفسها عن المجتمع تستسلم بعد ذلك وترضخ للمطالب القمعية للمجتمع البرجوازي من خلال "فصل" الثقافة عن الواقع اليومي لعامة النّاس. هكذا يصبح الفن موضوعاً للتأمل الروحي. أن تذهب إلى صالة عرض لوحات من تنظيم سفارة دولة ما، وتتأمل في الصورة وتبتسم رغم الخراء البادي من حولك والسابح في نهر بيروت القريب. تتخلّى عن طلب السعادة في العالم الحقيقي مقابلَ شكل داخلي من السعادة، سعادة الروح! هكذا تخلق الثقافة البرجوازية عالماً خيالياً في كلّ إنسان يمكن أن تتحقق فيه أعلى مُثُل الثقافة. وأهم ما في ذلك التحول الداخلي أنه لا يتطلب تحولاً خارجياً للعالم الحقيقي وظروفه المادية. كانت لحظة تخلّي يا مارك.
كنتَ يا حضرة الاستاذ البوهيمي المُتموّل مهتماً فعلاً بالثقافة والفنّ، لكنّك تخلّيت عن هذه المهمة وعدت إلى واقعيتك (وواقعيتك هي فعلياً هروب من الواقع). فاشتريتَ عقاراً ووضعت فيه جميع أهوائك الفنّية وعرضتَها في سوق السّلع. واكتفيت بمساحتك الصغيرة، مساحة ترفيه لحفنة قليلة من الناس القادرين على إنفاق المال من أجل التمتّع بما يشبه طيف الثقافة والفن. إذا لم يكن هذا هو تعريف الاستطباق وفن الهروب من الواقع (escapism) فأرجوك قلّ لي ما هو. الترميم هو فن الهروب من الواقع. في هذه الحالة، اسمح لي أن أكرر استخدامي لتسمية "الحرتقة". فلنقل الأشياء بأسمائها، ليس فناً بل حرتقة، ليس تعبيراً عن الذات، بل حرتقة، ليس صرحاً ثقافياً، بل حرتقة… حرتقة لأن ما تفعله لا قيمة له، على عكس عمّال المصنع الذين تجني المال على حساب ذكراهم. إنهم ينتجون القيمة حتى وهم أشباح.
لا أقصد معاداتك، فهذه النزعة لم تظهر للمرة الأولى مع حضرتك، أو في لبنان فقط، ولا حتى في المجتمع البرجوازي في القرن التاسع عشر، بل هي استكمال لما بدأه المجتمع اليوناني القديم بفصلِهِ الثقافة عن الحياة اليومية وإعلاء مرتبة مفاهيم أو عوالم "الحقيقة" و"الجمال"، حيث يمكن للإنسان أن يشعر على المستوى الفردي بالسعادة الطويلة الأمد. ولكن في العصر البرجوازي، أصبح من الضروري وصف هذه الثقافة بالأيديولوجيا،5 فهي تحافظ على المجتمع البرجوازي وتضمن استقراره واستمرار نظام إنتاجه. والثقافة على طريقتك تؤدّي وظيفة الهروب من الواقع من خلال السماح للفرد بتجاوز عذابات ومِحَن الحياة اليومية والسفر إلى عالم روحي أعلى يوفر ملاذًا من المعاناة والخوف من المجهول الذي يلاحقنا في حياتنا اليومية. علاوة على ذلك، توفّر هذه الثقافة حجابًا يستر الصراعات والتناقضات الاجتماعية. وتتم هذه الأدلجة بشكل ممنهج من خلال "التربية الثقافية"، من خلال انخراط الفرد في عالم الفن، في المعارض والفعاليات الثقافية في المدينة، إلى أن يستوعِبَ القيم المثالية وينسجمَ داخليًا معها من دون أن تعكّر مزاجه أي عوامل خارجية أو أزمات.
لا تيأس. يقول والتر بنجامين أن "صور الأسلاف المستعبَدين وليس صور الأحفاد المحرَرين" هي التي تدفع بالمضطَهدين إلى النضال ضد مضطهِديهم. أنا أعتقد، تعقيباً على كلام السيد بنجامين، أن ذكريات الماضي السعيدة والمعاناة وقسوة الماضي معاً، يمكن أن تشكل حافزاً لتخيّل المستقبل وبنائه في شكل أفضل. ولذا، عوّدتُ نفسي على أن أنصُت، كلّما مررت بهذا المكان، إلى عذابات الماضي وأحلام هؤلاء العمّال الذين كانوا يعملون هنا معي في المصنع، أن أتأمل إيماءاتهم البسيطة وحركات أيديهم، قصصهم وما كانوا يتخيّلون وهم شاردون خلال دوام العمل. تريد أن تصنع فنّاً يحرّر الناس؟ الفن التحرري الحقيقي هو فنّ ضد "الهروب من الواقع"، هو فنّ ضد الذوق السيئ والقاسي للفنانين اللبنانيين، ضد النيكروفيليا وعبادة الدّمار والأموات والأشباح والنوستالجيا، فنّ لا تتّسع له المعارض والمعارَضات والمواقف الدونكيشوتية والمزايدات ومزادات الأعمال الفنية العلنية والسرّية والحرتقات. أنا وغيري من أشباح "يونيون ماركس"، نملك ونُنتِج التجربة الحسّية المباشرة، لغة الحقيقة الخام.. ونحن على الضفة المقابلة نُراقبك عن كَثب. ويوماً ما، سنواجه عنف الأيديولوجيا، عنف الثقافة التي تُحصّن الواقع وتتحصّن خلف دشم من وهم. شبح ينتاب برج حمّود. "أن تكون إنساناً يعني في الواقع أن تملك يوتوبيا".
رسم المقال من تصميم فرنسوا الدويهي
1 - https://www.spottedbylocals.com/beirut/union-marks-beirut/
2 - https://twitter.com/TfayliAbbass/status/1606734356046921730
3- Society as a work of art, Herbert Marcuse
4- https://www.lecommercedulevant.com/article/28893-marc-hadife-veut-rester-boheme
5- Affirmative role of culture, Herbert Marcuse
6- Theses on the Philosophy of History, Walter Benjamin
7- Ernest Bloch: “To be Human means in reality to have Utopia”
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة