من دون مقدمات، دخلنا عصر النهايات. أستاذ ماركوزه، تسعدنا زيارتك الخاطفة. هل تعلم أني علّقتُ صورتك فوق مكتبي؟
لا، لا أعلم، غريب...
حسناً، عفواً، أتفهّم استغرابك. دعنا نبدأ من كارل ماركس. تطرّق ماركس في كتاباته بين 1844 و 1846 إلى شكل العمل في المجتمع الصناعي الحديث على أنه يسبّب الاغتراب الكّلي للإنسان. يعلن ماركس في هذه النصوص أن التقسيم الاجتماعي للعمل يتم وفقًا لقوانين إنتاج السلع الرأسمالية فقط، وهو لا يراعي أبداً مواهب الفرد ومصلحة المجتمع.
أنت تتحدث هنا عن كتابات ماركس الأولى، وهي برأيي مجرد مراحل أوليّة لنظريّته الشاملة التي لم ينجزها إلا في فترة لاحقة، ولذلك صراحة لا أعتقد أنه ينبغي المبالغة في التركيز عليها. لكن على كل حال، كتابات ماركس الأولى هي أول إعلان صريح عن عملية التشيّؤ (reification) والتي يحوّل المجتمع الرأسمالي من خلالها مجمل العلاقات الشخصية بين الناس إلى علاقات بين الأشياء. ويشرح ماركس هذه العملية في كتاب رأس المال ويطلق عليها إسم "فتشيّة السّلع" (Commodity fetishism). فنظام الرأسمالية يربط الناس بعضهم ببعض من خلال السلع التي يتبادلونها. ويتحدّد المستوى الاجتماعي للأفراد ومستوى معيشتهم واحتياجاتهم وحريتهم وقوتهم من خلال قيمة سلعهم. أما قدرات واحتياجات الفرد الفعليّة فليس لها أي دور في تقييم العلاقة.
حسناً، أنت يا ماركوزه طرحت مفهوم الاغتراب استناداً إلى النظرية النقدية التي وَضعتَ أسسها مع أصدقائك في مدرسة فرانكفورت. جمعتم بين النظرية الماركسية والتحليل النفسي الذي وضع أسسه سيغموند فرويد. فكيف تطوّر المفهوم انطلاقاً من المدرستين الماركسية والفرويدية؟ وكيف تشرح الإغتراب في المجتمعات الحديثة؟
في الوقت الذي يسير فيه المجتمع الحديث نحو المستقبل، يصبح العامل أكثر فقراً رغم ارتفاع مستوى انتاجيته وتراكم الثروة التي ينتجها. يصبح العامل سلعة أرخص كلما زاد عدد السلع التي ينتجها. على سبيل المثال، مع تطوّر التقنية الصناعية، ازدادت قيمة العمل الذي يقدمه العامل الأجير في المصنع، ولكن أجره تدنى إذا قارنّاه بمجمل قيمة العمل الذي يستحوذ عليها صاحب المصنع. فمع اتساع رقعة عالم الإستغلال المادي، يضيق عالم الإنسان. وهكذا ينبع البؤس من نمط العمل السائد، الذي هو، بطبيعة الحال، نمط متأصل في جوهر المجتمع الصناعي الحديث، يفسِد القدرات الإنسانية. فيفضي تراكم الثروة إلى الفقر، مثلما يؤدّي التقدم التكنولوجي إلى سيطرة المادة الميّتة على الحياة البشريّة.
اقتبستَ من جان بول سارتر في كتابك "الإنسان ذو البعد الواحد" (1964)، One-dimensional man، وصفاً لحالة العاملات اللواتي يكررن كالآلات نفس المهمات الميكانيكية، يومياً، خلال دوامهن في المصنع. ويقول سارتر: "بعد فترة وجيزة على إدخال الآلات شبه الأوتوماتيكية، أظهرت التحقيقات أن العاملة الماهرة تسمح لنفسها، أثناء العمل، أن تغوص في نوع من أحلام اليقظة الإيروتيكية لتتذكّر غرفة النوم والسرير والليل وكل ما يمكن أن يربطها بعزلة الزوجين. لكن الآلة الكامنة في داخلها هي التي كانت تحلم بالمداعبة." لماذا أثار هذا الوصف اهتمامك؟ وما الذي يمكن أن نفهمه من هذه الحالة؟
العامل الذي يصبح غريباً عن إنتاجه هو في نفس الوقت غريب عن نفسه. لم يعد عمله في حد ذاته ملكًا له بل أصبح ملكًا لطرف آخر. وينتج عن ذلك نوع من "المصادَرة" أو السّلب الذي يمسّ جوهر الإنسان. فالعمل في شكله الحقيقي هو وسيلة لتحقيق الذات الحقيقية للإنسان، وما تتضمنه من تطوير كامل لقدراته. ومع ذلك، يشلّ العمل في شكله الحالي الذات البشرية ويفرض عليها أن ترضى بذلك. وهكذا، يقتل العامل جسده ويدمّر عقله بدل أن يُطوّر طاقاته الجسدية والعقلية. ولذلك، يشعر أولاً أنه فعلاً مع نفسه عندما يكون خارج دوام العمل وغريباً عن نفسه خلال الدوام. ونستنتج أن عمله لا يتم عن طيب خاطر ولكن بالإكراه. إنه عمل قسريّ لا يُشبِع حاجاته بل يرضيها ببدائل أخرى. وهكذا، تُختزل المصادر الأساسية للحرية والسعادة في امتلاك الأشياء. فيصبح هدف الأفراد تحديد ما يستطيعون الاستيلاء عليه. حتى المتعة والسعادة تتحول إلى أنماط امتلاك واكتساب أناني للأشياء والسلع. وفي لحظة الهروب، تدعونا أحلامنا متى أمكَن إلى تذكّر مصادر السّعادة الحقيقيّة.
يقول صديقك إريك فروم إن الإنسان الذي يشعر بالاغتراب هو إنسان غير سعيد يهدف من خلال "استهلاك" المرح إلى قمع إدراكه بعدم السعادة. ويبحث الإنسان عن الوقت الإضافي، ومع ذلك فهو حريص على قتل الوقت بشتى الوسائل وإلهاء نفسه. هل توافقه؟
أتفق تماماً مع صديقي فروم. نحن نواجه هنا أحد أكثر جوانب الحضارة الصناعية غرابةً: عَقلنة اللامنطق. إن إنتاجية هذه الحضارة وكفاءتها وقدرتها على زيادة وسائل الراحة وتعميمها، وتحويل المهملات إلى حاجة، والدّمار إلى بناء، تظهر من دون أدنى شك مدى تجذّر عالم الأشياء في عقل الإنسان وجسده. فيتعرّف الناس على أنفسهم في سلعهم. يجدون روحهم في سياراتهم و جهاز الستيريو، في منزل من طابقين وفي أدوات المطبخ. سأعطيك مثالًا على ذلك. في بداية فيلم "نادي القتال" (1999)، Fight Club، يقول بطل الفيلم أنه أصبح عبداً لما يسميه "غريزة عشّ أيْكِيا"(Ikea)، حيث تضم شقته السكنيّة أثاثًا وأكوابًا وأجهزة شَعَرَ أنه مضطرٌّ لشرائها. يقول: "إذا رأيتُ شيئًا ذكيًا، مثل طاولة صغيرة على شكل ينغ يانغ، فلا بد لي من الحصول عليها". إنه منغمس جدًا في حبّ اقتناء الأغراض لدرجة أنه يَعرِفُ نفسه من خلال ممتلكاته المادية، فيقول "كنت أتصفح الكتالوغات وأتساءل: ما نوع الأواني التي تحدّد شخصيّتي؟". تقاس قيمة حياته كلها ومعناها بالأشياء التي يمتلكها. لقد أغرته جاذبية المستقبل، الذات الكاملة، وبينما كان يتصفح مجلات أيكيا، تصور هذه الذات المستقبلية، مدفوعة نحو "الأفضل" و"الأكمل" من خلال شراء السلع. لكن بطلنا هذا ينضمّ لاحقاً إلى "نادي القتال" للعودة إلى ذاته الحقيقية، ليشعر بالألم والدّم، لتدمير العالم وشركاته. كان عليه أن يدمّر ليكون سعيدًا مرة أخرى.
المضحك المبكي في المثال الذي أعطيته أستاذ ماركوزه هو أن الفيلم من إنتاج إمبراطورية الترفيه هوليوود. وهنا يتحوّل الموقف الرافض للتّسليع والاستهلاك إلى فيلم "بلوك باستر". أنا متأكد أن كاتب الرواية الأصلية للفيلم قرأ كتابك "الإنسان ذو البعد الواحد" واستوحى منه قصة البطل. على كل حال، أذكر أنّك كنت تدرّس في جامعة كاليفورنيا سان دييغو في ستينيات القرن الماضي، وكنت شخصية بارزة في حركة الثقافة المضادة في تلك الحقبة، وأرست كتاباتك أُسس نقد المجتمع الصناعي المعاصر والتي كانت أميركا أوضح مثال له. بناءً على تجربتك مع هذه الحركات المضادة، هل تعتقد بإمكانية تمرّد الأفراد على اغترابهم كما حصل مع صديقنا في فيلم Fight Club؟
أعتقد أن الأمر صعب. في المناطق الأكثر تقدمًا في هذه الحضارة، اي العالم الغربي، تم حقن الضوابط الاجتماعية في أرواحنا بشكل عنيف. ولذلك يتجلّى الرفض الفكري والعاطفي لـ"التقدّم" كحالة عصبيّة عاجزة. إذا حاولت التعبير عن وعيك باغترابك أو إذا رفضت قبول حقيقة الاغتراب، فسوف يُنظر إليك على أنك "عواطلي" أو هيبّي أو Rebel without a cause، أو حتى كشخص مريض يجب نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية.
ولكن أليست هذه الحالة البشرية أو "المرض" السمّ الضروري لتقدم الحضارة. هل تريد أن تعود بنا إلى الطبيعة لتحقيق ذاتنا؟
"التقدم" ليس مصطلحًا محايدًا، فالتقدّم يتحرك نحو أهداف محددة تُحدّد بما يخدم تحسين ظروف حياة الإنسان. وإذا كان الهدف من التقدم هو فعلاً تحسين حياة الإنسان، فسوف نصل إلى مرحلة يصبح إنتاج المواد والحاجات بطريقة أوتوماتيكية بموازاة تخفيض فترة العمل إلى المستوى الأدنى. وهذا ما تحدث عنه ماركس عندما طرحَ مفهوم "إلغاء العمل". ولكن كما تبدو الأمور، بؤس العالم يزداد مع تقدم التكنولوجيا. فقد أتاحت للمجتمعات تحرير الإنسان، ولكن المنظومة المسيطِرة على عالمنا اختارت استخدام التكنولوجيا لاستعباد الإنسان. ومن كان يعمل في وظيفة واحدة سابقًا عليه الآن أن يضاعف مجهوده. الوضع مُحزن فعلاً، هناك من ناضلوا وقُتلوا من أجل ثمان ساعات عمل وثمان ساعة تسلية وثمان ساعات نوم… خسرنا كل شيء.
ترى بعض الجماعات أمثال الـ entrepreneurs أن من يرفض العمل وقواعد المجتمع الحديث هو شخص كسول وبِلا طموح، يريد أن يحصل على كل شيء من دون مقابل. بمعنى آخر، كما قال سليمان بك، هنالك مشروع بروليتاري ومشروع رأسمالي وفهمك كفاية. فما رأيك؟
كلام جميل من سليمان بك. ولكن الشيوعيّة، بإلغائها للملكية الخاصة، تؤسّس لشكل جديد من أشكال الفرديّة. أي أن هذا المشروع البروليتاري ليس فقط نظامًا اقتصاديًا جديدًا ومختلفًا، بل هو نظام حياة مختلف كليّاً. الشيوعيّة هي استعادة جوهر الإنسان من قِبَل الإنسان ومن أجله، وبالتالي فهو وعي الإنسان الكامل وعودته إلى نفسه. فمن خلال إلغاء الملكية الخاصة، يستحوذ الإنسان على الملكية الحقيقية. إن إلغاء البروليتاريا يعني إلغاء العمل في حد ذاته.
كلمة أخيرة، وحماسيّة إذا أمكن استاذ هربرت ماركوزه؟
أقتبس من صديقي العزيز وزميلي في مدرسة فرانكفورت المرحوم فالتر بنجامين: "مُنِحنا الأمل من أجل أولئك الذين فقدوا الأمل".
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة