خلال رحلة البحث عن جغلٍ بيزنطي لاستضافته في العدد 20 من مجلة رحلة المعنون "Dead-End الطريق مقطوع"، لم أجد نقطة انطلاق أفضل من مقبرة بير لا شيز (Père la chaise) في ضواحي باريس لاختيار ضيفي. فهنا ترتاح شخصيات "تاريخية" ومشاهير بعد حياة مليئة بالمغامرات الصغيرة والكبيرة إلى أن وصلَت إلى الـ Dead-End حرفياً. واستناداً إلى مقولة "لا تدور ولا تحتار، عند بير لا شيز الإختيار" كان خياري الأول جيم موريسون (1943-1971) إبن الـ 27 ربيعاً، كاتب ومؤدي أغاني فرقة The Doors مثل "This is the end" و "Break on through to the other side"، والتي عبّرت، كما هي الحال مع إسم الفرقة، عن أولوية تدمير الحاجز الذي، في حال تمّ اختراقه، سيشرّع أمامنا أبواب الإدراك على مصراعيها (شرط الاستعانة بمادة المسكالين كما نصَحَ ألدوس هكسلي).
قبل وصولي إلى قبر السّيد موريسون المكلل بالورود ورسائل الحب التي تركتها المعجبات من أنحاء العالم، استوقفني ضريح إيسيدور إيسو، مؤسسة الحركة الفنية والأدبية المعروفة بـ "الحروفية" (Lettrism). كُتِبَ على شاهد القبر: "إيسيدور إيسو غولدشتاين (1925-2007) أعتقد أنهم رشقوني بكل عبارات السوء التي استطاعوا قولها عني. لكن يبقى ان الجديد والفريد في الأمر هو كل الخير الذي سيكتشفونه في أفعالي."
المرحوم إيسو كان شخصية معروفة في شارع سان جرمان دي بري في باريس منتصف القرن العشرين. طليعي يتذكره عالم السينما بشكل رئيسي لفيلمه الثوري عام (1951) Traité de Bave et d'Eternité، بينما يُنظر إلى كتاباته السياسية أنها مهّدت لأحداث مايو 1968 في فرنسا. زادت حشريتي فاقتربت من الضريح أكثر. بدأت تصدر منه همسات لم أكن أفهمها: "Fokha tlokha tlokh! gouol tchia goual tchia. luss rok luss praine! Khlichbroi!".
وهكذا انتهت بي الطريق إليك يا استاذ إيسيدور. ماذا كنت تهمس في قبرك يا إيسو؟ هل كنت تحدّثني بلغة بلدك الأم رومانيا؟
ماذا؟ هذه قصيدة حروفية من كتاب انطولوجيا الشعر الحروفي. ألم تُحضّر للمقابلة قبل الوصول إلى هنا؟ لا أصدّق ما سمعته...
وأنا لم أفهم ما سمعت. عادي. أصلاً لم أكن أنوي زيارتك، الصدفة هي التي أوصلتني إليك.
عتبي عليكم في رحلة أنكم استضفتم غي ديبور منذ عام ونيّف، ولم أتلق اتصالاً واحداً منكم مع أنني أنا من أسس لحركة مايو 1968 الطليعية قبل أكثر من 10 سنوات على اندلاعها.
عليك أن تتفهم يا استاذ، السياق مختلف، السنة الماضية كنا نواجه في لبنان انهياراً لم يسبق له مثيل فكتبنا عن "إفلاس المجتمع الاستعراضي" وارتأينا أن مقابلة مع ديبور ستكون مفيدة في هذا المشهد التاريخي.
حسناً، نسيت أنّكم فقراء الآن، ولكن هذه فرصة لتغيير واقعكم، ليست الـ dead-End كما تظنّون. على سبيل المثال، ما كانت مجلة رحلة لتصدر مجدداً لولا الانهيار، هل فهمت؟ البركان ينفجر عادةً بعد زلزال عنيف، فيحرق كل قديم ويغيّر الواقع. أنتم تواجهون صعوبات، نعم، ولكن الاستمرارية ضرورية، أنتم تؤسسون لمعجزة، تكاتفوا وساندوا بعضكم البعض كما ساندكم القرّاء والداعمون على باتريون وقالوا لكم أن سعر الصرف ليس الـ Dead-End.
باتريون يا معيّشنا، حسناً، شكرا يا إيسو. دعنا نتحدث عنك وعن أفكارك. هل صحيح أن العرب، وتحديداً التيار الصوفي - والصوفيون سبّاقون في كل شيء - أسسوا "المذهب الحروفي" قبلك بِقرون؟ اعتبرَ الحروفيون الصوفيون أن العبادة هي اللفظ، وبه يمكن للإنسان الاتصال بالله، والمعرفة هي أيضا معرفة الألفاظ لأنها مظهر الموجودات. فهل كنت تعلم؟
لا لم أكن أعلم. لم نكن نستخدم ويكيبيديا والانترنت في الخمسينات لنطّلع على هذه المعلومات القيّمة...
حسناً، دفعت نحو مزيد من التدمير. ففي حين نظر معظم الناس إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية كمرحلة إعادة إعمار، أرَدتَ يا إيسو الدّفع بعملية تدمير الثقافة إلى أبعد حدود ممكنة (ولا أقصد هنا ما قام به الحريري بداية التسعينات من تدمير أجهزَ على ما تبقّى من مبانٍ قديمة لم تدمّرها الحرب في وسط بيروت). وهكذا استندت في نظريتك إلى الرغبة في الخلق كمحرّك أساسي.
صحيح، لم أجد في الماركسية أو في السارترية أعلى مستويات النشاط البشري، بل وجدتها في الإبداع والخلق الذي ينقلنا من "بصقة" اللاوعي إلى أبدية التاريخ المخلوق بوعيِنا. أقصد أنه في حين يمارس الفنان الخلق داخل التاريخ، فإن فعل الخلق الذي يمارسه يلمِس الأبدي. أضِف إلى ذلك أنّ النظريات الاقتصادية لم تأخذ في الحسبان شريحة واسعة من المجتمع الذي تحلّله، وهي فئة الشباب اليافعين الذين لا يشاركون في النشاطات الاقتصادية (لا عمل ولا استهلاك منظّم). هؤلاء الشباب هم "الخارجون" الحقيقيون عن المنظومة، ولكن في حال لم توجّه طاقتهم الإبداعية، وهي فعلاً جزء أساسي من طبيعتهم، فستصل إلى طريق مقطوع ومظلم تسود فيه الجريمة والسلوك المعادي للآخرين. أردت من خلال الحركة الحروفية إعادة هيكلة المجتمع ككل بما يسمح "للخارجين" بتحريك طاقتهم الابداعية بطريقة أكثر ايجابية بدل محاصرة هذه الطاقة في طريق لا تؤدي إلى أي مكان.
ولكن كيف نشجع الشباب على الابداع الإيجابي في حين أن كل تجاربهم هي تجارب سلبية. حتى أنت يا إيسو، عندما كنت تبلغ من العمر 16 عاماً ومارست إبداعك من خلال نشر روايتك الأولى (إيسو، أو ميكانيكا المرأة)، حظرت السلطات الفرنسية كتابك وأتلفَت النّسخ وحكمت عليك بالسجن ثمانية أشهر.
بالظبط، حينها اعتبر المجتمع والسلطات المنبثقة عنه أن ما كتبته كان فاحشاً، وأن الكلام عن الجنس يهدّد الوجود. ولكن ماذا حصل بعد 10 سنوات؟ قامت الثورة الجنسية في أوروبا وأميركا ولم تقعد قبل أن تبلغ النشوة. ما قصدته بإعادة هيكلة المجتمع في كتاب انتفاضة الشباب (Le soulèvement de la jeunesse) هو إعادة هيكلة الأفكار التي تشكّل المجتمع وشبابه. ومن أجل إعادة هيكلة الأفكار، كان عليّ أولاً أن أفكك الكلمة حتى الحروف.
جميل. الانتفاضة الشبابية التي بلغت ذروتها عام 1968 قادها "الخارجون" من الطلاب والهيبيز، جماعة الـ "مالي شغل بالسوق". أذكر أنك كتبت في مانيفستو "انتفاضة الشباب" عام 1950 أن "كل حزب سياسي يفتخر بتمثيل الشباب أو النضال من أجل مستقبلهم! في الواقع، كل واحد منهم يدافع عن مصالح "كتلة" محددة - "بروليتاريا"، "طبقة وسطى"، أو "الفئات الحسنة في الأمة" - وذلك من خلال استعباد القوة الصاعدة المتمثلة بالشباب." وأعتقد أنك على حق.
نعم، أنا أيضاً أعتقد أنني على حق.
تقول في مانيفستو الشاعرية الحروفية:
"إيسيدور إيسو يبدأ تدمير الكلمات والحروف.
إيسيدور إيسو يريد للحروف أن تحضن في داخلها كل الرغبات.
إيسيدور إيسو يريد أن يُقلع الناس عن استخدام الاستنتاجات، أي الكلمات.
إيسيدور إيسو سيخلق المشاعر ضد اللغة، من أجل لذة اللّسان. "
لماذا تتحدث بهذه الطريقة الغريبة؟ ولماذا طرحت هذه الرؤيا حينها؟ أعني اللغة تطوّرت مع التاريخ، أعرف أنك تقول أن تطوّر الفن غير مرتبط بالثورة في المجتمع، فلماذا أردت أن تفككها؟ أليس في ذلك نوع من البدائية غير المجدية التي تعقّد الأمور أكثر بدل أن تبسّطها؟
أولاً، أنا أكتب مانيفستو، هكذا نكتب المانيفستو. ثانياً، نعم، إن تطوّر الفن غير مرتبط بالثورة في المجتمع، بل هو ملاذ منها. في الشعر، شعرت أن الحقبة الأولى بدأت مع هوميروس. وضع هوميروس مخططًا لما يجب أن تكون عليه القصيدة. ثم طوّر من بعده الشعراء هذا المخطط من خلال استخدام جميع الوسائل الممكنة ضمن معايير هوميروس. ولكن في النهاية، أنجزنا كل ما يمكن القيام به ضمن نهج هوميروس. شعرتُ أنه تم الوصول إلى هذه الـ Dead-End في الشعر مع فيكتور هوغو، وفي الرسم مع أوجين ديلاكروا ، وفي الموسيقى مع ريتشارد فاغنر. عندما اكتملت هذه الحقبة الأولى، لم يكن هناك شيء يمكن كسبه من خلال الاستمرار في إنتاج أعمال وفقًا للنموذج القديم. لن يكون هناك أي "إبداع حقيقي يا مان"، كما قال بول، وبالتالي لا قيمة جمالية. هكذا قررت افتتاح حقبة النقش في الفن.
"النقش في الفن"، هممم، مثل تعريف تاركوفسكي للسينما بأنها عملية "النقش في الزمن".
سأصل إلى السينما، "طوّل بالك". كنت أقول، حان الوقت إذاً لبدء مرحلة جديدة. وكنت أنا الرجل المناسب لفتح الطريق المقطوعة. كنت ألملم الردم الناتج عن تحطيم الأشكال القديمة، وأضع مخططًا جديدًا لإعادة استخدامه بطريقة حديثة وراديكالية، على عكس الحركات الشعرية في الحقبة السابقة. العناصر الأساسية لحقبة الإبداع الشعري الجديدة هي الأحرف، أي الرموز المرئية والأصوات التي لم تملك أي معنى. ما قمت به في الحروفية هو وضع معايير لطرق جديدة بدل الطرق المقطوعة، بهدف إعادة دمج هذا الردم اللامتناهي بإسم أهداف جمالية جديدة.
إذاً القصيدة التي سمعتك تلقيها قبل قليل كانت قصيدة حروفية؟ Fokha tlokha tlokh!
نعم…
طيب أنت لم تحدّ طرحك بالأدب والشعر، بل ذهبت باتجاه السينما أيضاً، ومارست نفس الأسلوب التدميري وأبدعت تقنيات تسمح لك بتطويع الطّرح الحروفي على الصورة والأفلام. أذكر أنك جمعت أشرطة أفلام وجدتها في مستوعبات النفايات واستخدمت مشاهد منها في فيلمك وكأنك أعطيتها حياة جديدة. هل هذا هو معنى الخلق؟ أن تبحث في المهملات عن فرصة جديدة؟ وهل السينما، الفن السابع الحديث، كالشِّعر، وصل إلى dead-end برأيك؟
طبعاً! المضحك المبكي في الموضوع أنه عندما عُرض فيلمي في أحد المهرجانات، حاولت لجنة الحكم التهرّب وعدم التعليق، لم يعرفوا كيف يعلّقون، لقد شاهدوا نوعاً جديداً من الفن. اعتقدت، منذ خمسينيات القرن الماضي، أن السينما غنية جدًا. أقصد أنها سمينة، منتفخة. لقد وصلت السينما في الخمسينيات إلى حدودها القصوى، الـ Dead-End ، وأي توسّع إضافي سيفجّر هذا الخنزير السمين تحت تأثير الاحتقان. أعلَنتُ تدمير السينما. فبعد أفلام كوكتو وبونويل وشابلن وايزنستاين خَفَتَ الإبداع وتحوّل كل شيء إلى منتج تجاري. بداية السينما الجديدة تتطلب تدمير السينما القديمة. هذه الحقبة، كما هي الحال مع الشعر، هي حقبة "النقش"، تفتيت القديم.
صحيح، بدأت الأفلام التجريبية الجديدة تبصر النور بعد أن عرضتَ فيلمكَ Traite de Bave et d'Eternité. في فيلمك الثوري، استخدمت لأول مرة تقنيات جديدة لصناعة الأفلام: النقش والخدش وحرق الفيلم بالمواد الكيميائية، وفصل الصوت عن الصورة، وتفكيك القصة. ما القيمة التي تقدّمها للمشاهد من خلال هذه التقنيات؟
الجواب في النص الذي يظهر على الشاشة في بداية الفيلم: "إذا كنتم تشعرون بالقرف من تكرار قصص الحب والعصابات والواقعية الجديدة التي تقدمها السينما لكم منذ نشأتها حتى يومنا هذا، سترون الآن إحدى الروائع الأصلية لشاب سوف يغّير فن الشاشة."
ما هذا التواضع يا إيسو؟
أخي، أحد النقاد كتب بعد مشاهدته الفيلم: "إيسيدور إيسو هو قائد جيلنا"
طيب، في الفيلم تعود إلى اللغة والكلمة والحرف، فنسمعك تقول في أحد المشاهد: "مفرداتنا مليئة بالجثث الحقيقية، مقبرة لرجال ماتوا من أجل الكلمات." في مقابل الصورة، يتكرر في الفيلم إلقاء القصائد الصوتية (Poesie sonore) التي تتميّز بها الحركة الحروفية. فما هو دور القصيدة في الفيلم؟
يعتمد الفيلم على مبدأ الفصل التام بين الصوت والصورة في المونتاج. ويتم التعامل مع هذين العنصرين بشكل مستقل فلا يفرض على واحد أن يرتبط بعلاقة دلالية مع الآخر. يعني أن عرض الأصوات والصور في نفس اللحظة قد يكون محض صدفة. أما القصائد الصوتية، فهي لا تعني شيئاً (Signify)، ولا معنى لها (Meaning)، وقمنا بتأليفها فقط من أجل جمالية الضوضاء التي تخلقها.
أستاذ إيسو، هنا ينتهي حوارنا، وصلنا إلى النهاية (استخدمنا عبارة Dead-End كثيراً في هذه الحلقة). ولذلك، أود أن أقتبس من فيلمك الجملة التالية: "كان جيداً، ولكن كل الأمور الجيدة يجب أن تصل إلى خواتيمها… لأول مرة، مع دينيز، خاف أن ينهي علاقته بامرأة، خاف من النهاية الحتمية. وكلما زاد خوفه، كلما زادت رغبته بالانفصال." شكراً إيسو على هذا الحوار. بعد هذه الـ Dead-End، تغرق في حزن عميق، لا تبحث عن مغامرة جديدة، لا تبحث عن رحلة. أرقد بسلام. الليل طويل وأنا سأغادر المقبرة.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة