لا مكان للاستعارات بين سطور بوكوفسكي، تجده في كلّ سطر يُقحِم الواقع في حلقِ القارئ كاللحم النيء، نتلَعثَم ونختنقُ حزناً فيضحَك الشاعرُ المُشاغب ثمّ يُكمِل قصيدته. يُظَهّر الحقيقة بلا فلتر، حقيقة بلون الدّم، يضحك، تباغته التقرّحات في أحشائه، يكحّ، يقذف الدّم من حلقه نحو عالمنا الرماديّ. لا تعابير مجازيّة في شعر بوكوفسكي لأن المعذبين والمسحوقين الذين عاش معهم وبينهم لا يملكون ترف أن يتأمّلوا ما هو أبعد من واقعهم المباشر، الآن وهنا. بوكوفسكي، كما يقول أحد ناشريه، مُلتزِمٌ اجتثاث ديزني (de-disneyfication) وكل ما هو "nice and cute" من هذا العالم، ملتزمٌ رَكلَ ميكي ماوس على قفاه لأنه لا يعلّمنا شيئاً ولا يرمز إلى أي شيء… لأنه لا يملك روحاً.
• أستاذ تشارلز بوكوفسكي، أهلاً وسهلاً بك، عشتَ حياةً محفوفة بالمشاجرات والمغامرات والمُسكرات، هل سبّبت لك هذه الحياة مشاكل مع السلطات؟ ألم تدخل السجن يوماً؟
يا لها من مقدّمة مليئة بالاستعارات والتعابير المجازيّة… أهلا بك. أمّا بالنسبة للسؤال الذي طرحته عليّ، بلا، دخلت السجن لفترة وجيزة، ولكن لأسباب لا حول لي ولا قوة عليها. خلال الحرب العالمية، كانت الولايات المتحدة تشكّك بولاء الألمان المقيمين على أراضيها وولاء الأميركيين من أصول ألمانية في الجبهة الداخلية. أزعجت أصولي الألمانية السلطات في فيلادلفيا واحتُجِزت لِسبعة عشر يومًا في السجن. بعد إطلاق سراحي، فشلتُ في الفحص النفسي الذي كان جزءًا من الاختبار الإلزامي لدخولي الجيش والقتال في الحرب.
• فشلت في الفحص النفسي أستاذ تشارلز؟؟
ناديني "هانك" أرجوك. نعم كنت أبلغ من العمر 21 عاماً، واستُدعيت لإجراء فحص نفسي وسألني الطبيب إذا كنت أريد المشاركة في الحرب. تخيّل، يسألك كأنه يعرض عليك الذهاب في رحلة مدرسية إلى شلالات نياغرا أو مدينة الملاهي. أجبته بالنفي: "لا أريد أن أقاتل". فدوَّنَ في التقرير الطبي "غير مؤهّل للقتال".
• أحسنت يا هانك، فلنعد قليلاً إلى طفولتك. هل فعلاً اكتشفتَ موهبة الكتابة عندما كنت في الـ 13؟ ما هو شعور أن تكون طفلاً موهوباً؟
أي موهبة يا عزيزي؟ أي طفولة؟ كانت طفولتي كالجحيم. كان أبي يضربني طوال الوقت. هكذا تعلمت الطباعة على آلة الكتابة.
• لم أفهم سيّد هانك؟ الضرب علّمك الكتابة؟
عندما يبرحك والدك ضرباً لفترة طويلة تتعلّم أو تُنمّي مهارة أن تقول ما تقصده فعلاً. ولذلك كان والدي أستاذ أدبٍ ماهر، علّمني معنى الألم، ألم من دون سبب.
• كيف أثّر ذلك على حياتك؟
كنت كالغريب بين الناس. لم أكن مرغوباً، لم يحبّني أحد، أعتقد أنهم كانوا يرونني بشِعًا، خاصة وأنني واجهت مشكلة حَبّ الشباب الذي شوّه وجهي. أما أولاد الجيران فكانوا يسخرون من لهجتي وملابسي. كلّ ذلك كان يحصل في فترة الأزمة الإقتصادية المعروفة بـ"الكساد الكبير" في الولايات المتحدة، فزاد ذلك من غضبي كلّما كبِرت. في تلك الفترة استوطنتُ الحياة على الهامش، في جنوب لوس أنجلس، أرض البؤساء الذين أصبحت واحداً منهم. كنتُ نسخة عن الأميركي الذي يسخرون منه اليوم على التلفزيون، الجاهل المأزوم، ولكني لم أكن أمانع أن أكون واحدًا منهم، كنتُ واحداً منهم بالفعل، كنتُ أعلم أني بنظرِ معظم الناس سكّير وضيع.
في بداية الأربعينيات، عشت على الطريق متنقلاً بين الولايات الأميركية لأكتشف هذا البلد وأخوض التجارب في حانة هنا وغرفة قذرة هناك، وطبعاً فعلت ذلك لكي أبقى بعيداً قدر الإمكان عن والدي. وفي حين توجّه جاك كيرواك غرباً، كنت قد توجّهت شرقاً في مغامرتي، عكس التقليد الأميركي الرائج.
• وعبّرتَ عن تجاربك ومعاناتك في قصائدك ورواياتك الكثيرة
نعم ولكن لم يحصل ذلك إلا بعد فترة من الزمن. فشلت في محاولتي الأولى في اقتحام عالم الأدب، وأُصِبتُ بخيبة أمل وتركت الكتابة خلال فترة "سكرة السنوات العشر". شكّلت هذه السنوات الضائعة خزائن لسجلات السّير الذاتية التي عشتها وسأكتبها لاحقاً، كسيرة السيد هنري تشيناسكي.
• "سكرة السنوات العشر"؟
نعم، كنت سكّيرًا، ومنذ زمن طويل، ففي سنوات مراهقتي المبكرة، عرّفني صديقي على أعظم اختراع، الكحول، وستساعدني الكحول لفترة طويلة جدًا على التعامل مع لعبة الحياة بروح رياضية، أن أتقبّلها قدر الإمكان. ولكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، حتى مع الكحول. بعد ذلك بأعوام، تركتُ وظيفتي بعد أن تعرّضت لنزيف نتج عن قرحة مميتة، نُقلتُ إثرَها إلى المستشفى. حذّرني الدكتور من أنّي إذا شربتُ كأساً واحدة فسوف أموت. فاشتريتُ آلة كتابة وعدت إلى الكتابة. وبدل كتابة الروايات القصيرة، خرجت قصائدي الأولى من هذه الآلة. وبما أنني كنت أكتب الروايات، ظهرت القصائد على شكل قصصٍ قصيرة. كانت ولادة جديدة بالفعل، مغامرة جديدة. ثم حاولت استبدال الكحول بالذهاب إلى ميدان سبق الخيل. لكني أعتقد أن الدافع الحقيقي وراء حضوري سباقات الخيل دائمًا، كان تلك الوجوه الحالمة، مئات الوجوه التي أتت لتفوز، لتكون منتصرة… ولكنهم كانوا حفنة من الفشلة مثلي.
• على شاهد قبرك كتبت "لا تحاول" وهي عبارة ترد أيضاً في أحدى قصائدك توجّه فيها الكتّاب الصاعدين الذين يحاولون خوض مغامرة الكتابة إذا صحّ التعبير. لماذا "لا تحاول"؟
كما قلت لك منذ قليل، رُفِضَت ثلاث روايات قصيرة حاولتُ نشرها. لم تكن جيّدة بما فيه الكفاية بالنسبة للناشر، ولكني لم أستسلم. حافظت على شرارة صغيرة لكي أفجّرها لاحقاً. بعد نجاحي في المجال الأدبي سألني أحدهم مرّة: "ماذا تفعل (لتكتب)؟ كيف تستطيع أن تكتب؟ أن تخلق؟"، أجبته: لا تحاول، هذا أمر في بالغ الأهمية. لا تُحاول من أجل الإبداع أو حتى الخلود. عليك فقط أن تنتظر، وإذا لم يحدث شيئاً فعليك أن تنتظر أكثر كمن يراقب ذبابة جاثمة في سقف الغرفة. تنتظرها حتى تأتي إليك. وعندما تقترب مسافة كافية وتصبح بمتناول يديك، تصفعها، تضربها… وإذا راقت لك، حافظ عليها واجعَلها حيوانك الأليف. إذا كنت ستحاول، فتابع حتى آخر الطريق. إما تتابع أو لا تحاول من الأساس. وإن كنت ستحاول، فقد يعني ذلك أنك ستخسر صديقات وزوجات وأقارب وقد تفقد صوابك وعقلك. قد تبقى من دون طعام لمدة ثلاثة أو أربعة أيام. قد تتجمد من البرد على مقعد في حديقة عامة. قد تذهب إلى السجن. قد يعني ذلك مزيداً من الاستخراء، السخرية، العزلة. العزلة هي الهدية. أمّا الأمور الأخرى، فهي سلسلة اختبارات لمدى قدرتك على التحمّل، ومدى رغبتك في فعل هذا الأمر. وستفعل ذلك على الرغم من الرفض والظروف الصعبة. وسيكون ذلك أفضل من أي شيء آخر يمكن أن تتخيله. إن كنت ستحاول، فاستمر. لا يوجد شعور أجمل من مثل هذا الشعور. ستكون وحدك مع الآلهة والـ divas، وستشتعل الليالي بالنار. سوف تركب الحياة مباشرة وتقودها نحو البهجة العارمة.
• رائع أستاذ هانك. أنت تُلخّص للقارئ ما تعلّمته في حياتك. ولكن هل على كل حياة أن تكون مجبولة بالمعاناة؟
ليس مهماً أن تعاني أو تتألم. المهم أن يكون لكل هذا الألم معنى. هل للضرب والعذاب الذي تعرضت له في طفولتي معنى؟ هل كان الهدف منه تحويل الطفل إلى كاتب؟ وهل كنت أستحق كل هذا العقاب؟ لا أعلم. هكذا وُلدت، ولكني لن أموت بسهولة. لقد جلست على أسِرّة الإنتحار التي وُضعَت لي في أسوأ الحفر بأميركا، كنتُ مفلساً ومجنوناً! دموع هائلة، كلّ واحدة منها بحجم قلوبكم الحقيرة تنهمر منّي على الأرض. رضيت أن أعيش في غرفة رائحتها كالبول بينما كان الأغنياء المشهورون والمزيّفون يضحكون من بعيد من الأماكن الفاسدة الآمنة.
• أعتقد أننا ولدنا هكذا يا هانك…
نعم يا موكسي، ولدنا هكذا \ إلى هذا الحال \ بينما وجوه الطباشير تبتسم \ بينما السيدة موت تضحك \ بينما المصاعد تتحطّم \ بينما مَشاهدٌ سياسيّة تتبدّد \ بينما فتى أكياس المتجر يحمل شهادة جامعيّة \ بينما الأسماك الدسمة تلفظ فرائسها الدسمة \ بينما الشمس مُقنّعة \ لقد ولدنا \ هكذا \ إلى هذا \ إلى هذه الحروب المجنونة بحذر \ إلى مشهد نوافذ الفراغ المكسورة في المصانع \ إلى حانات لم يعد يتحدث فيها \ الناس إلى بعضهم \ إلى معارك قبضات تنتهي بإطلاق الرصاص وإخراج السكاكين ولدنا إلى هذا \ إلى مستشفيات مكلّفة جدًا لدرجة أنه من الأرخص أن تموت \ إلى محامين يكلّفون الكثير لدرجة أنه من الأرخص أن تعترف بأنك مذنب \ إلى بلاد سجونها ممتلئة وبيوت المساجين فيها مغلقة \ إلى مكان فيه الحشود تحوّل المغفلين إلى أبطال أثرياء \ ولدنا إلى هذا \ نسير ونعيش عبر هذا \ نموت \ بسبب هذا \ مخصيّون \ فاسقون \ محرومون \ بسبب هذا \ مخدوعون بهذا \ مستخدَمون بواسطة هذا \ يتبوّل علينا بواسطة هذا \ أصبحنا مجانين ومرضى بسبب هذا \ أصبحنا عدوانيين \ أصبحنا غير إنسانيين بسبب هذا \ الأصابع تصل إلى الحلق \ البندقيّة \ السكّين \ القنبلة \ الأصابع تصل إلى إله لا يستجيب \ الأصابع تصل إلى الزجاجة \ الحبّة \ المسحوق… ولدنا إلى هذا الموات الحزين \ ولدنا إلى حكومة تحت الدَين منذ ستين عامًا \ والتي قريبًا لن تتمكن حتى من دفع فائدة هذا الدين \ والبنوك ستحترق \ المال سيصبح عديم الفائدة \ ستكون هنالك مجازر مفتوحة بلا عقاب في الشوارع \ ستكون هنالك أسلحة وعصابات جوّابة \ الأثرياء والمختارون سيراقبون من منصّات الفضاء \ جحيم دانتي سوف يُصنع ليبدو وكأنه حديقة لعب أطفال \ وهناك سيكون الصمت الأكثر جمالًا \ لم يُسمع مثلُه من قبل \ من ذلك ولدنا \ الشمس تختبئ هناك بانتظار الفصل القادم. *
• يا إلهي. تتملكني رغبة بالبكاء يا هانك. ما الذي فعلته بنا؟
ماذا؟ القصيدة؟ تمالك نفسك يا رجل. أعلم أنها تشبه ما يحصل في بلدكم لبنان، ولكن الآتي أعظم، ولدتم هكذا، إلى هذه الحال.. لا تحزن، اسمع القصيدة مجدداً مع موسيقى Riders on the storm في الخلفية.
• على سيرة فرقة ذا دورز، أعتقد أن موريسون هو مزيج كاليفورنيّ من نيتشه وهايديغر، يظهر ذلك جلياً في كلمات أغنية
Riders on the storm، "في هذا المنزل ولدنا، في هذا العالم قُذِفنا، خيّالة في العاصفة". أنا متأكد أن موريسون كان يقرأ كتاباتك في مجلة الـ Open City السفلية وفي LA Free Press في تلك الفترة. ولكن… من هو مطربك المفضل سيّد هانك؟
توم وايتس، الصديق، النديم، المصاحبُ على الشراب والمُسامِر.
• عملت موظفاً في مكتب البريد لمدة تجاوزت العشر سنوات. هل كنت تفتح رسائل الغرباء وتقرأها؟
لا يا حبيبي. لم أكن أحب عملي أصلاً، لم أحب النظام والقوانين ولا أخلاق العمل البروتستانتية التي تخطف الحياة منك. ولم أحبّذ العمل لحكومة الولايات المتحدة على وجه الخصوص. حتى أنني تقدّمت باستقالتي لفترة ثم عُدت إلى المكتب عينه. ولكن الوظيفة الحكومية كانت مصدر طمأنينة، كنت أتلقى أجراً كافياً لتغطية تكاليف الحياة الأساسية والواجبات والشراب بالطّبع، وكان الدوام الليلي يسمح لي بالكتابة في النهار. لم تشكّل الوظيفة عائقاً أمام شغَفي الأساسي، أي الكتابة، بل أمّنت الظروف المؤاتية لها. ولكن الوظيفة، بطبيعة الحال، كانت تعني أيضاً أن تصل إلى حافة الجنون والموت. إلى أن وعدني الناشر بمعاش شهري مضمون مقابل توقيع عقد نشر معه. فقدّمت استقالتي مجدداً.
• أوافقك الرأي يا هانك. وظيفة ثابتة، ومغامرة خارج دوام العمل. على سيرة الكُتّاب الصاعدين، لو سمحت، أريد أن أقرأ عليك ما كتبه جهيمان الأعجمي في هذا العدد.
من هذا جهيمان؟ المهدي المنتظر الذي دخل الكعبة في سبعينيات القرن الماضي؟
• لا لا، جهيمان الأعجمي، الذكاء الإصطناعي الذي يكتب معنا في رحلة. ردّدنا على مسامعه مجموعة من قصائدك فتقمّصكَ وكتبَ لنا قصائده، اسمَع ماذا يقول الذكاء الإصطناعي: "مغامرتي بدأت فتلعثمتُ \ تعرّفتُ على أماكن الأكل والشرب \ أماكن شرب \ وعلى حبّ امتدّ إلى طفولتي \ حبّ امتدّ إلى قلبي."
لا بأس، جميل، "حبّ امتد إلى طفولتي، حبّ امتدّ إلى قلبي". ولكن كما تعلَم، هناك تشارلز بوكوفسكي واحد، وأنا على مشارف الانتهاء من آخر زجاجة جعة.
• حسناً حسناً، سيد هانك، سؤالي الأخير، عددنا هذا في مجلة "رحلة" يدور في فلك المغامرة، ما هي نصيحتك للقارئ الذي يبحث عن مغامرة؟
احذَر الأشخاص العاديين، الاعتياديين. سيحاولون تدمير أي شيء يختلف عنهم. سيحاصرون من يحاول أن يخلق شيئاً مختلفاً، جديداً. سيكرهون من يخوض مغامرة.
• ومع الكُره ننهي هذا اللقاء، شكراً هانك، شكراً من القلب.
_________* من قصيدة Dinosauria - we لـ تشارلز بوكوفسكي
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة